«حق تقرير المصير» كرديا

صلاح بدرالدين

  لايختلف الشعب الكردي عن الشعوب الأخرى المتعايش معها من عرب وترك وفرس في درجة التعلق بالحرية وحب الحياة والعيش بكرامة ولم يألو جهدا في مختلف مراحل التاريخ في سبيل العيش بسلام وممارسة حقوقه الطبيعية والتمتع بخيرات موطنه الأصلي التاريخي كردستان والتفاعل الحضاري مع المحيط الجغرافي والانساني على أساس من الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة المتوازنة وكان دائما وأبدا منبع العطاء مدافعا عن النفس وليس مهاجما منتصرا للمظلوم ورادا لكيد المعتدين ليس في تخوم موطنه فحسب بل في أرجاء المنطقة الممتدة من كردستان التاريخية وحتى سوريا وفلسطين ومصر والسودان واليمن وشمال افريقيا
 واذا لم يحالفه الحظ ولم تسعفه موازين القوى السياسية المحلية والاقليمية والدولية في العصر الكولونيالي مابعد انهيار الامبراطورية العثمانية في تحقيق هويته القومية على أرضه في اطار كيان حر مثل شعوب الجوار الكردستاني فلايعني أنه لم يحاول أو لم يضحي وينتفض ويثور مثل الآخرين بل بذل الغالي والرخيص ولكنه خسر معارك التحرير في حقبة تحرر شعوب المنطقة واستقلال الدول الى حين أمام أكثر من خصم : الاستعمار والانتداب الغربيين والأنظمة – الوطنية – الشوفينية المتخلفة التي ترعرعت على أيدي الأجنبي وسلكت نهجه في تجاهل الآخر وأقامت دولا – ملغمة – قابلة للانفجار أحادية القومية والدين والمذهب وظلمت بذلك شعوبها قبل الآخرين وتركت ثغرة توسعت وتفاقمت وماجلبت سوى المآسي والتراجع وترقب المفاجآت وبذلك لم يواجه الشعب الكردي الانتكاسة والفشل فحسب بل شابت قضيته القومية بعد ترحيلها من عصر اقامة الكيانات الى حقب لاحقة المزيد من التعقيدات الظاهرة – وقد تكون حميدة في نتائجها في عالمنا المعاصر  – بعد تقطيع أوصال موطنه وتجزئته وتوزيعه على أكثر من مجتمع وبلد وقوم وثقافة وتضاعف حجم المسألة لتجتاز الحدود الوطنية الى الاقليم والعالم وهيئة الأمم والمحاكم الدولية في عصر أصبح كل شيء فيه معولما .

   قبل تسمية ارادة التحرر لدى الأقوام بمبدأ حق تقرير المصير وقوننته بقرون بحثت المكونات القومية في المنطقة والعالم عن سبل مختلفة للخلاص واذا كانت النزعة الاستقلالية قد ظهرت في الأدب الشفاهي وحتى الفولكلور الشعبي وقصائد الشعراء في كردستان بصور رمزية في قديم الزمان فقد طالب الشاعر الأكبر – أحمدي خاني – منذ القرن السادس عشر بكل وضوح بتقرير مصير شعبه في الهوية واقامة الكيان على غرار ” الترك والعرب والعجم ” ولم تخل الانتفاضات والحركات الثقافية والسياسية التي لم تتوقف خلال مئات السنين في طول كردستان وعرضها من النزعة الاستقلالية التي ظهرت بصور وأشكال شتى وقد تجلت أكثر وضوحا خلال مداخلة الممثل الكردي في مؤتمر السلام بباريس الجنرال شريف باشا بعد الحرب العالمية الأولى .
   بعيد الحرب العالمية الثانية حملت الأحزاب الديموقراطية الكردستانية التي نشأت في ايران والعراق ولاحقا في سوريا وآخرا في تركيا في برامجها اشارات عامة الى مبدأ حق تقرير مصير الشعوب والذي جاء بوضوح في مبادئ الرئيس الأمريكي – نيلسون – الأربعة عشر وتبنته ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى وأصبح بندا في ميثاق هيئة الأمم المتحدة وتحول مبدءا مقدسا في العلاقات الدولية وفي برامج ووثائق أحزاب اليسار والتحرر الوطني وحركات المجتمع المدني على الصعيد العالمي واذا كان الكل قد أجمعوا على المبدأ فانهم اختلفوا على التفاصيل والتطبيق العملي لذلك أصبح هذا المبدأ الانساني السياسي الاجتماعي الاستراتيجي والمصيري في حياة البشرية حمالة تفسيرات واجتهادات وتباينات ليس من جانب نظم الاستبداد والفصل العنصري فحسب بل حتى من جانب المطالبين به ومناصريه .
   ذكرنا أن الأحزاب الكردستانية ضمنت مبدأ حق تقرير المصير في مقدمة برامجها تثبيتا أو تلميحا في المجال العام ولم تستند اليه صراحة في مطالبها القومية ببلدانها التي اقتصرت على الحقوق القومية والسياسية والثقافية والادارية والمساواة أحيانا بصورة مبهمة وتارة عبر الادارة اللامركزية والحكم الذاتي وبسبب الاختلاف حول تعريف المبدأ واعتبار البعض أنه ينشد الانفصال وبناء الدولة المستقلة غضت غالبية أطراف الحركة السياسية الكردية الطرف عن اثارة المبدأ خشية مواجهة العواقب القانونية القاسية عند اعتباره دعوة الى ”  اقتطاع أجزاء من أرض الوطن ” هذا من جهة ومن الجهة الأخرى عجزت القيادات السياسية الكردية في مراحل سابقة بحكم البؤس الفكري والثقافي من تناول مبدأ تقرير المصير بحثا ونقدا وتقييما وسبل تطبيقاته على القضية القومية الكردية بالترافق طبعا مع – تهرب – الغالبية الساحقة من النخب السياسية في القوميات السائدة من أداء واجباتها الوطنية الديموقراطية تجاه القوميات المقهورة في نشر المبدأ والتمسك به سبيلا لحل القضية الكردية .
   انفرد ” حزب الاتحاد الشعبي الكردي في سوريا ” بالتصدي العلمي الواقعي لهذه المسألة وتحديدا في مؤتمره الخامس عام 1980 عندما تبنى مبدأ حق تقرير المصير للشعب الكردي في سوريا المقيم على أرضه التاريخية – غرب كردستان – في برنامجه الجديد معتبرا بأسانيد تاريخية أن هذا المبدأ لايقتصر على الدولة المستقلة بل يحمل خيارات عديدة مثل (الحقوق السياسية والثقافية – اللامركزية الادارية – المنطقة القومية – الادارة الذاتية – الحكم الذاتي – الفدرالية – الكونفدرالية – الاستقلال التام  كأبغض الحلال) وقد ترك الحزب الخيار الأسلم لإرادة الكرد عبر اجراء الاستفتاء النزيه ليقرروا مصيرهم في ظل النظام الديموقراطي التعددي المنشود ومنذ توقف الحرب الباردة أصبح هذا المبدأ يحظى بالاهتمام الدولي من خلال مؤسسات الأمم المتحدة والأطراف الدولية العظمى والكبرى وتحديدا الولايات المتحدة الأمريكية والبلدان الأوروبية كما أن مراكز البحث العالمية وابداعات المفكرين والنخب الثقافية وعلى ضوء تجارب أفغانستان والعراق وفلسطين والسودان ولبنان ويوغسلافيا السابقة ودول الاتحاد السوفيتي السابق قد أغنت هذا المبدأ السامي وحسنت من شروطه بالعديد من الابداعات النظرية في مجال حل القضايا القومية مثل مبدأ الديموقراطية التوافقية وقبل ذلك جواز التدخل الانساني وامكانية اعادة النظر في الحدود المرسومة منذ الحرب العالمية الثانية ومشروعية تفكيك الدول الأحادية الشمولية واعادة بنائها على أسس سليمة تعددية وديموقراطية وأخيرا مبدأ الشراكة الوطنية العادلة في السلطة والثروة مع توفر آليات في تطبيق تلك المبادئ والمسلمات عبر تدخل الأمم المتحدة والدول ذات العضوية في مجلس الأمن والمحاكم الجنائية الدولية .
   لقد أكد السيد مسعود البارزاني خلال افتتاح المؤتمر الثالث عشر للحزب الديموقراطي الكردستاني – العراق قبل أيام على مبدأ حق تقرير المصير للشعب الكردي مثل سائر شعوب المعمورة واعتبار النظام الفدرالي الذي ارتضاه شعب كردستان العراق منذ عام 1992 وثبت في دستور العراق بعد التحرر من الدكتاتورية عام 2003 بمثابة تجسيد لذلك المبدأ وهو لم يأت بجديد كما أرادت الأوساط الشوفينية في العراق وخارج العراق تصوير الأمر وكأنه دعوة لإعلان دولة كردستان المستقلة – مع مشروعيتها – وخرق الدستور والتعهدات وكما ظهر فان جماعات – القائمة العراقية – تقف وراء هذه الاثارة المفتعلة لأسباب سياسية ومن أجل الاستهلاك المحلي والمزايدات اللفظية تمهيدا لنسف الجهود الرامية الى المصالحة الوطنية حسب مبادرة السيد البارزاني ولو كانت جادة وحريصة على وحدة العراق المزعومة وصادقة في قراءتها الخاطئة لكلمة السيد رئيس اقليم كردستان لقام رئيس القائمة وأقطابها (العلاوي والنجيفي والمطلق) الذين كانوا ضمن الحضور بالرد أو الانسحاب من المؤتمر اذا كانوا صادقين.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…