تركيا بدستور قديم _ جديد… وماذا بعد، عن مستقبل هذا البلد؟!.

هوشنك أوسي
 

حين قام قائد الجيش التركي، الجنرال كنعان إيفرين بانقلاب 12 أيلول سنة 1980، دمّر الحياة السياسيّة التركيّة، مؤكِّداً؛ إن الدولة ومؤسّستها، تحت أحذية العسكر، وألاّ سائس وقائد للدولة والمجتمع في تركيا، إلاّ باشاوات الجيش.

بعد مرور عامين على انقلابه، أمر إيفرين بسنّ دستور “جديد” هو نفسه القديم، مع جرعة مناعة زائدة، تحول دون انفلات أرسان الدولة من أيدي الجنرالات.

وتحقق ما أمره الجنرال، وعرص دستوره “الجديد” على الاستفتاء، فنال 92 بالمئة!.

بعد مرور 30 سنة، وفي نفس يوم الانقلاب، 12 أيلول 2010، عرض زعيم حزب العدالة والتنمية، ورئيس الحكومة التركيّة، رجب طيّب أردوغان، دستوره “الجديد” على الاستفتاء، بعد أن عجز عن تمريره في البرلمان، فنال هذا الدستور 58 بالمئة، ورفض 42 بالمئة!.

وبذا، صار دستور أردوغان نافذاً، في اليوم التالي.
ما قدّمه أردوغان، على اعتباره دستور جديد، لم يكن سوى بعض التعديلات التي طالت 26 مادّة فقط، من أصل 177 مادّة.

وهذه التعديلات، يمكن تلخيصها، بأنها عززت المزيد من الحقوق الفرديّة، وقلّصت وصاية العسكر على الدولة، ولم تلغِها تماماً، كما يُظنّ ويروّج له، وأخرجت الجسم القضائي التركي من وصاية الجيش، لتدخله تحت وصاية الحكومة.

بمعنى، القضاء التركي، لم يكن مستقّلاً سابقاً، ولن يكون مستقلاً، حاليّاً، مع التعديلات التي أجراها أردوغان على دستور إيفرين.

ما يحلينا للقول: إن الدستور التركي الحالي، هو دستور إيفرين _ أردوغان، لكونه خليط من أفكار الأوّل وطموحات الثاني!.

هو دستور المهادنة مع المؤسسة العسكريّة، بخلاف ما يروّج، (وسأتي على توضيح هذه النقطة)، ودستور “ابتزاز” للناخب التركي، تمهيداً لاستحواذ الإسلام السياسي التركي على المزيد من الدولة واحتكارها، لجهة المضي في إتلاف علمانيّتها المنقوصة أصلاً.

فحتّى قبل موعد الاستفتاء، كان أردوغان يصرّح بما معناه: “إذا صوّتم لي، في الانتخابات البرلمانيّة المقبلة، ستجدون دستور مدني جديد”.

وفور إعلان النتائح الأوّليّة للاستفتاء، أعلن أردوغان إنه أطلق ماكينة الإعداد لدستور جديد!.

ما يعني أنه، يعترف ضمناً أن ما تمّ الاستفتاء عليه، ليس دستور مدني، من جهة، ومن جهة أخرى، أن زعيم العدالة والتنمية، بدأ الحملة الدعائيّة لانتخابات تموز/يوليو 2011، فور إعلان نتائج الاستفتاء على إصلاحاته، مستثمراً انتصاره، منذ الآن!.
 
لا ريب أن أردوغان، يلعب لعبة “ذكيّة وخطرة”، مع العسكر، والناخبين، في مسعى تحقيق المزيد من طموحاته الراميّة إلى إعادة عثمنة تركيا، بشكل ناعم وسلس وعلى أقلّ من مهله.

فتحديد يوم 12 أيلول، للاستفتاء على التعديلات الدستوريّة، التي لم تطال روح وجوهر وعمق وعماد، دستور سنة 1982، بغية تقديم التعديلات للداخل والخارج التركي، على إن تركيا، أعلنت طلاقها من إرث وتركة انقلاب 12 أيلول 1980 الدموي.

وإن هذه الإصلاحات، تفتح الباب أمام محاكمة قادة الانقلاب!.

ما يجعل الناخب التركي يتهافت على التصويت بـ”نعم” لدستور أردوغان، دون الرجوع لطبيعة وماهيّة وفحوى وجوهر تلك التعديلات الدستوريّة، ومردودها، أو الموّاد التي تمّ تعديلها، ليس حبّاً في التغيير، بل كرهاً ومقتاً بالعسكريتاريا التي تمسك بخناق الدولة منذ تأسيسها.

من جهة أخرى، تحديد يوم 12 أيلول للاستفتاء، يجعل من محاكمة قادة انقلاب 12 أيلول، أمراً شكليّاً ورمزيّاً، ولا طعم ومعنى له.

إذ أن في هذا اليوم، يكون قد مرّ على جرائم الانقلاب وفظائعه 30 سنة بالتمام والكمال.

ما يعني أن تلك الجرائم التي يفترض أن يحاكم جناتها، سقطت بالتقادم!.

بالتالي، كنعان إيفرين، الذي ما زال حيّاً، لن يجده ضحايا الأنقلاب وذويهم، خلف القضبان، نتيجة ما اقترفه بحقّ تركيا ونخبها السياسيّة والثقافيّة بانقلابه ذاك.

ما يعني، أن هذه الاصلاحات، أو بالأحرى، التعديلات الدستوريّة، هي فعل انتقام رمزي، من فتح الله غولان، زعيم أكبر جماعة إسلاميّة في تركيا، (مقيم في أمريكا، وهو الداعم الرئيس لحزب العدالة والتنمية) لكونه تأذّت مصالحه وطموحاته بفعل العسكر، منذ انقلاب 1980، وأردوغان، ودستوره، ليسا إلاّ وسيلة لتحقيق هذا الثأر!.

وهذه النقطة، في غاية الحساسيّة، التي لا يلتفت لها المتابع للشأن التركي.

وحتّى محاكمة شبكة أرغاناكون، وقادة الانقلاب الافتراضي التي سمّي بـ”باليوز / المطرقة الضخمة”، هو أيضاً، فعل انتقام من فتح الله غولان من المؤسسة العسكريّة!.
 
كرديّاً، حزب العمال الكردستاني أيضاً، دخل هذه المعركة، بلعبة كانت في غاية الذكاء، وأثبت حضوره وثقله الاستراتيجي في التوازنات الداخليّة التركيّة أيضاً، باعتباره الجبهة الثالثة في تركيا، بالإضافة إلى جبهة الإسلام السياسي _ القومي (حزب العدالة والتنمية، حزب السعادة، حزب الله)، وجبهة الكماليست (نسبة إلى كمال أتاتورك)، والقوميين المتطرّفين.

إذ دخل الكردستاني هذه الاستفتاء، عبر رديفه السياسي (حزب السلام والديمقراطيّة).

وذلك، بمقاطعة الاستفتاء، إلتزاماً برأي وقرار الزعيم الكردي الأسير عبد أوجالان.

يعني، نأى الكردستاني بنفسه عن معمعة الصراع على السلطة بين الإسلاميين والأتاتوركيين، ورفض هذه الإصلاحات، لكونها لم تلامس روح دستور إيفرين، ولم تعترف بالتنوّع القومي والديني والطائفي في تركيا، ولم تضمن استحقاقات هذا التنوّع الديمقراطيّة.

ما يعني أن الكردستاني رفض تلك الاصلاحات، ولم يعتبرها كافية، إلاّ أنه لم يطالب قاعدته الجماهيريّة الكرديّة الواسعة، بأن تصوّت بـ”لا”!.

وبالتالي، قدّم الكردستاني خدمة كبيرة واستراتيجيّة لاردوغان، ومنحه فرصة أخرى، ولو بشكل غير مباشر.

فلو صوّتت القاعدة الجماهيريّة للكردستاني بـ”لا”، لانتصر الكماليست والقوميين المتطرّفين، ولانهزم اردوغان شرّ هزيمة.

ويكفي دليلاً إذا أضفنا عدد المقاطعين إلى عدد الرافضين لنخلص لهذه النتيجة.

ما يعني أن الكردستاني، أصاب عصفورين بحجر المقاطعة: ساهم، ولو بشكل غير مباشر، في تمرير دستور أردوغان، من جهة، ومن جهة أخرى، أثبت ثقله الوازن والاستراتيجي في المعادلات والتوازنات الداخليّة التركيّة.

ما يعني أن الكردستاني، لم يترك فرصة لحزب العدالة والتنمية، للالتفاف مجدداً، على قوّة تأثير أوجالان، والعمال الكردستاني، في أيّة عمليّة حلّ للقضيّة الكرديّة في تركيا.

فقد كانت نسبة المشاركة في عموم المحافظات والمدن الكرديّة الـ25، جنوب شرق تركيا، فقط 36,4.

وبلغت نسبة المقاطعة 72,6.

وإذا كانت نسبة المشاركة في الاستفتاء في عموم تركيا، 77 بالمئة، وصلت نسبة المقاطعة في المناطق الكرديّة إلى 72,6 بالمئة.

وبل وصلت نسبة المقاطعة في محافظة هكاري إلى 91 بالمئة!.

ما يعني أن قرار أوجالان والكردستاني، ساري المفعول في تلك المساحة الكبيرة من جغرافيّة تركيا!، وأن الذين شاركوا في الاستفتاء، هم البوليس ورجال الأمن وموظفي الدولة وحسب!.


 
بالنتيجة، الانتصار الذي انجزه أردوغان، لا يمكن لأيّ مراقب أن ينكر أسهم العمال الكردستاني فيه!.

وإذا كان هذا الاستفتاء، بمثابة “البروفا” للانتخابات البرلمانيّة القادمة، فأن تمرير أردوغان لدستوره، لا يعني أن موقفه الانتخابي مطمئن.

لأن حزب السعادة الإسلامي، هو أيضاً صوّت بـ”نعم” للتعديلات الدستوريّة!.

وكل الجماعات الإسلاميّة والليبراليّة والكثير من منظمّات المجتمع المدني، صوّتت بـ”نعم”.

حتّى أن جناح من حزب الحركة القوميّة المتطرّف صوّت للتعديلات!.

يعني، أن نسبة الـ58 بالمئة، ليست قواعد حزب العدالة والتنمية!.

وقياساً على نتائج هذا الاستفتاء.

ربما يحقق حزب العدالة والتنمية، في الانتخابات القادمة، تلك النتيجة التي تخوّله تشكيل الحكومة بمفرده، كما جرى في انتخابات 2002 و2007، إذا أجرى انفتاح حقيقي وجدّي وجريء على الأكراد.

وربما تكون الحكومة التركيّة القادمة إئتلافيّة، إمّا بين حزب الشعب الجمهوري وحزب الحركة القوميّة، أو بين حزب العدالة والتنمية وحزب السعادة.

ودوماً، الكرد، سيكونون خارج الدائرة.

إذ أنّ الإسلاميين والعلمانيين، سواء، حيال التعاطي مع الملفّ الكردي.


 
ما أنجزه أردوغان، ومن خلفه فتح الله غولان، لا يستهان به.

إذ نجح في تمريره دستوره، وأصاب خصومه في المعارضة بضربات قوّيّة!.

فحزب الحركة القوميّة على شفير انشقاق!.

وحزب السعادة الإسلامي يعاني من أزمة حقيقيّة.

وحزب الشعب الجمهوري، هو بدوره فقد الكثير من وزنه، وأصيب زعيمه الجديد كمال كيليجدارأوغلو، بهزيمة، في أوّل امتحان له.

ولم يبقى أمام أردوغان من خصوم، سوى العمال الكردستاني، ورديفه السياسي، حزب السلام والديمقراطيّة.

وهذا ما دفع المكانة الإعلاميّة لفتح الله غولان من صحف وقنوات تلفزة المساندة لحكومة أردوغان، “صباح، زمان، يني شفق، طرف، قناة أس تي في، قناة آ تي في…”، لشنّ هجوم عنيف على قرار المقاطعة، بغية النيل والطعن في ما حققه الكردستاني في المناطق الكرديّة.

إذ كان أردوغان يحلم أن يكون انتصاره عامّاً وشاملاً، فخذلته تلك المناطق!.

ولعل الأهمّ مما جرى صبيحة 12 أيلول 2010، ما سيجري غداة 20 أيلول، وهل سيتخلّى العمال الكردستاني عن الهدنة التي أعلنها من جانب واحد أم لا؟ وهل ستتطوّر المفاوضات السريّة التي تجريها الحكومة، عبر رئيس الاستخبارات مع أوجالان، إلى مفاوضات علنيّة مع العمال الكردستاني أم لا؟.

فقسم كبير من مستقبل تركيا القريب، يترتّب على الإجابة عن هذين السؤالين أيضاً، ولا يقتصر فقط على تمرير تعديلات أردوغان الدستوريّة.
 

كاتب كردي  

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…