الحلقة الأولى من مذكرات برهم صالح: تعلمت العربية مبكرا بتشجيع من أبي الذي درس الحقوق ببغداد

معد فياض

رئيس حكومة إقليم كردستان في مذكراته لـ«الشرق الوسط»: ولدت في عائلة كردية ميسورة..

فوالدي كان قاضيا وأمي ناشطة نسائية

من موقع سياسي إلى موقع آخر أعلى، يتنقل الدكتور برهم صالح، نائب الأمين العام للاتحاد الوطني الكردستاني الذي يتزعمه رئيس الجمهورية جلال طالباني.

ففي نهاية 2009 تم تكليفه من قبل رئيس إقليم كردستان، مسعود بارزاني، زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني، برئاسة حكومة الإقليم على خلفية فوز قائمة التحالف الكردستاني في انتخابات الإقليم التشريعية.

وترتب على ذلك مغادرته لمنصب نائب رئيس الحكومة العراقية الذي شغله مرتين.

لقد ظهر صالح كسياسي عراقي عام 2003، بعد سقوط نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، وباعتباره نائبا لرئيس أول حكومة في العراق الجديد، شكلها الدكتور إياد علاوي.

وكان صالح كان قد دشن حياته السياسية كمسؤول حكومي للمرة الأولى عام 2001 عندما كلفته قيادة حزبه برئاسة حكومة كردستان في السليمانية، ثم نائبا لرئيس الحكومة العراقية، ووزيرا للتخطيط والإنماء في حكومة إبراهيم الجعفري عام 2005، فنائبا لرئيس الحكومة العراقية للمرة الثانية في حكومة نوري المالكي.


هذه المسؤوليات كانت تحديا لإمكانات المهندس الشاب، برهم صالح، الذي حصل على شهادة البكالوريوس في الهندسة المدنية من جامعة كارديف 1983، والدكتوراه من جامعة ليفربول 1987، وكلتاهما في بريطانيا، في علوم الهندسة والإحصاء وتطبيقات الكومبيوتر، بينما خبرته العملية استندت إلى عمله مهندسا استشاريا لإحدى الشركات الأوروبية، وهذا ما منحه خلفيتين في العلوم والاقتصاد، ومكنه بالتالي ليكون مسؤولا ناجحا في كل المسؤوليات التي أنيطت به.


إلا أن صالح، الذي بدأ مشواره السياسي مع حزبه مبكرا، وهو ابن القاضي المعروف في السليمانية، أحمد صالح، كان دائما يجد نفسه وخياراته أمام مفترق الطرق، وكان يجتاز هذه المفترقات بنجاح اعتمادا على ذكائه الذي عرف به منذ كان طالبا في الدراسة.

وعبر لقاءات أجرتها «الشرق الوسط» مع رئيس حكومة إقليم كردستان، ما بين أربيل والسليمانية، تحدث إلينا صالح عن مفترقات الطرق التي مر بها في حياته.


على العكس من غالبية القادة السياسيين الأكراد، لم يولد برهم صالح، السياسي الكردي ورئيس حكومة إقليم كردستان سياسيا، من رحم الجبل.

فهو لم يحمل بندقيته كمقاتل في صفوف البيشمركة متنقلا بين شعاب ووديان جبال كردستان العراق.

وفي اللحظة الحاسمة التي وجد فيها صالح نفسه عند مفترق طرق، وخيارات، أسهلها صعب للغاية على نفسه، اختار وبفضل ذكائه المبكر الذي عرف به منذ طفولته، أن يترك العراق لإكمال دراسته الجامعية ودراساته العليا في أوروبا، وبالذات في إنجلترا، غير هذا كان عليه أن يلتحق بالثورة الكردية في الجبال، أو أن يستسلم لأجهزة امن النظام السابق.

وباختياره هذا بشر هذا الشاب الذي عمل في السياسة وخاض غمار النضال من أجل قضيته الكردية منذ فتوته، بولادة نمط جديد، ومتطور من القادة السياسيين الأكراد، نمط عرف كيف يجمع بين التفوق العلمي والعمل السياسي.

فهو لم يضح بإنجازاته العلمية والدراسية على محراب السياسة، كما لم يهدر تاريخه السياسي والإيمان بقضية شعبه من أجل العلم والمعرفة التي وظفها لتطوير قدراته القيادية التي ستميزه لاحقا.


ولعله السياسي الكردي الوحيد الذي أمسك بمهارة تفاحتي العلم والعمل السياسي بيد واحدة، هاتان الصفتان امتزجتا في شخصية موهبتها القيادة والحضور، الحضور الذي أوجد في الساحة السياسية العراقية ظاهرة النجم السياسي من غير أن يسعى أو يخطط لها، فأينما وجد، خاصة بين طلبة الجامعات، تجد الشباب يتحلقون حوله لالتقاط صورة تذكارية معه، أو الحصول على توقيعه، مع أنه يتعامل مع هذه الظاهرة بروح متواضعة، بل وخجولة في أغلب الأحيان.


حياته المهنية والسياسة ستتميز فيما بعد بعدد من مفارق الطرق، والخيارات التي حسم ما فات منها بنجاح ومهارة مزجت بين ما هو علمي وسياسي وإنساني، وهو يأمل أن يحسم ما سيأتي لاحقا بذات الطريقة.

ولعل حياته العاطفية، أو العائلية، المحطة الفارقة الوحيدة في تاريخه التي وجد نفسه فيها أمام طريق، أو خيار واحد لا ثاني له، ذلك عندما التقى المرأة التي قرر أن تكون شريكة حياته ودربه منذ المرة الأولى، وهو اختيار لم تتدخل فيه الحسابات العلمية، ولا المفاجآت السياسية، ونجح فيه بفعل انتصار العاطفة وهواجسها.


وإذا كان برهم صالح، كشخصية سياسية، قد تسلسل في ظهوره في بيئته الأصلية، كردستان، وبالذات في مدينته السليمانية منذ عام 1991، فإن هذه الشخصية الظاهرة كانت مفاجئة جدا، وللغاية بالنسبة للعراقيين ككل وذلك عندما انطلق كسياسي عراقي من بغداد بعد سقوط نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين عام 2003، إذ وجد السياسي الكردي الشاب، غير المعروف شعبيا على مستوى العراق، نفسه في خضم أحداث سياسية هائلة تتلخص بتغيير نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين، هذا النظام الذي عرف على مدى أكثر من ثلاثة عقود بشموليته، ومغامراته التي غيرت أحداثا محلية وعربية وأثر بأخرى عالميا.

يضاف إلى ذلك أن هذا التغيير لم يأت بفعل وطني، أي ليس من قبل فصائل عراقية بل بفعل احتلال القوات الأميركية للعراق، وهذا ما يعطي الأحداث بعدا تراجيديا خطيرا يتطلب وجود قادة وسياسيين كبار لهم مراسهم الصعب مع العمل السياسي وعبر تجارب تاريخية جبارة.

وبين هذه القيادات التاريخية والمعروفة من خلال عملها في المعارضة العراقية، كان حضور صالح، ترى هل كان حضوره هذا، في زمان ومكان معينين، قدريا؟ أم مخططا له؟ أو أنه كان على موعد مع فرصته التاريخية التي سوف يشغلها بكل مساحاتها الجغرافية والعملية ليؤسس له حضوره المناسب واللائق به.


وفي خضم هذه الأحداث وبين هذه الشخصيات تألق نجم السياسي الشاب برهم صالح، وسرعان ما عرف كقائد سياسي عراقي أكثر منه كرديا، ومع أن الفرصة التي أتيحت له كانت قد أتيحت، وربما بقدر أكبر لغيره من السياسيين العراقيين، فإن بعضهم غابوا في ظل الشخصيات القيادية الأخرى، أو ذابوا في محاليل أحزابهم أو مذاهبهم وطوائفهم وقومياتهم.


لكن برهم صالح لم يستظل بالوجود الكبير لقائده السياسي والقومي جلال طالباني الذي دعم ظهور وتقدم صالح، بل استفاد من خطى وتجارب قائده المحنك، وبقي على مسافة تحفظ قامته بوضوح، ولم يتحلل في سيادة المشاعر القومية الكردية، على الرغم من أنه كردي وابن عائلة كردية عريقة، بل بقي يُذكر العراقيين ومن خلال لغته العربية السليمة جدا والمشوبة بلهجة جنوبية، بأنه عراقي مثله مثل عراقيي البصرة أو النجف أو الأنبار أو ديالى، وأنه ابن بغداد التي بادلها مشاعر الحب، مثلما هو ابن السليمانية، والأهم من هذا وذاك هو أن المناصب التي تقلدها في الحكومة العراقية، على أهميتها، لم تبن حاجزا بينه وبين الناس، سواء في إقليم كردستان، أو في بغداد والمحافظات العراقية الأخرى.


وإذا أردنا أن نتحدث عن وعود العراق الجديد في الديمقراطية، والحرية، وبناء عراق اتحادي يتسع لجميع مكوناته وأطيافه الدينية والقومية والسياسية، فإننا سنؤشر وبوضوح، بروز برهم صالح كسياسي عراقي، وباعتباره واحدا من أبرز وجوه العراق الجديد، عراق ما بعد 2003.


على الرغم من أن برهم صالح ولد، عام 1960، في عائلة ميسورة، فإنه لا يتذكر أي بقايا طعم ملعقة من ذهب كانت في فمه، فهو «من أسرة الحاج صالح قاسم من أبيه ومن أسرة ساحبقران من أمه، وهما أسرتان وطنيتان، وعريقتان من مدينة السليمانية»، ويشار إلى والده أحمد صالح باعتباره كان قاضيا عادلا ونزيها، ومناضلا سياسيا، بينما عرفت أمه كونها ناشطة نسائية عرفت بمواقفها الصلبة.

يسترجع برهم صالح الأوراق الأولى من دفاتر حياته، فيقول: «أنا ترعرعت في عائلة مسيسة أصلا، والدي كان قاضيا ووالدتي سياسية أو مسيسة حيث كانت ناشطة فاعلة في مجال العمل النسوي، والجو العام في مدينة السليمانية كان وقتذاك مسيسا بسبب الاضطهاد الذي كان يعانيه الكرد».


يفيد صالح قائلا: «ولدت عام 1960 في بيت جدي في محلة (برخانه قا) إذ حولت العائلة البيت الذي ولدت فيه إلى دار للعرض السينمائي، واليوم تحولت السينما إلى مركز تجاري (مول)، وكان عمري خمس سنوات عندما انتقلنا من هذا البيت الذي أتذكره، حيث كان طرازه شرقيا، بيت واسع تتوسط فناءه الداخلي نافورة وحديقة، ومفتوح على الفضاء، وانتقلنا إلى بيتنا الجديد وقتذاك في محلة شورش في السليمانية والذي ما تزال والدتي تقيم فيه وكنت أنا أقيم فيه إلى وقت قريب».


ولا يخفي صالح أنه ولد في عائلة ميسورة، «العائلة كانت ميسورة، والدي رحمه الله كان قاضيا ومن عائلة تملك عقارات ووالدتي تنحدر من عائلة متوسطة».


عرف عن الفتى برهم تفوقه الدراسي، كما ذكر أستاذه فهمي أمين عزيز، الذي عمل لـ41 عاما في مجال التربية وخدم لمدة 38 عاما كمدرس ومدير مدرسة شورش التي كان قد درس فيها الطالب برهم، وكما تؤكد والدته، وهو ينسب تأثير والده في تفوقه العلمي، يقول «الأثر الكبير في تفوقي يعود إلى والدي وهو خريج كلية الحقوق في جامعة بغداد عام 1952 والذي كان يهتم كثيرا بدراستي وتوجيهي للقراءة وقد كنت متفوقا منذ السنة الأولى التي دخلت فيها إلى المدرسة، إضافة إلى أن والدي كان يحثني ويشجعني على قراءة الكتب غير المدرسية وكان كثير السفر إلى بغداد وغالبا ما كانت هداياه لي عبارة عن كتب باللغة العربية ومن هنا كان اهتمامي مبكرا بهذه اللغة».


للطبيعة أثرها في نشأة برهم الذي أمضى سنوات طفولته الأولى في منتجع شقلاوة التابع لمحافظة أربيل، وهو مصيف يختبأ في واد بين الجبال الشاهقة، ومؤثث ببساتين الكروم والتوت والجوز والمشمش.


يقول: «دخلت المدرسة الابتدائية في مدينة (منتجع) شقلاوة حيث كان والدي قاضيا فيها، ودرست باللغة الكردية، ولي ذكريات جميلة عن هذه المدينة التي تختفي بين البساتين ومزارع الكروم، وهي واحدة من أجمل المصايف في كردستان، وبقيت في هذه المدرسة حتى السنة الثالثة، وقد شجعني والدي في تلك الفترة على الاهتمام بالثقافة الكردية وقراءة الشعر الكردي إلى جانب تشجيعه لي على دراسة اللغة العربية لهذا انتقلت بعد السنة الثالثة إلى مدرسة عربية في مدينة السليمانية».


عرف عن والده تمسكه بمبادئه التي لم يهادن عليها، فهو ضحى بعمله السياسي من أجل القضاء الذي عمل في حرمته إذ لم يكن له أن يجمع بين القضاء ونزاهته وبين تأثيرات السياسة والأحزاب، يوضح برهم قائلا: «كان والدي سياسيا وتخلى عن العمل الحزبي لممارسة القضاء لكنه بقي مهتما بالقضية الكردية، وكان عليه أن يتحمل التحديات باعتباره قاضيا، وأن لا يخضع للضغوط الأمنية، لهذا تحمل النفي والضغوطات الكثيرة، وأتذكر أنه غالبا ما كان يردد أن أكبر خطأ ارتكبناه هو أننا تظاهرنا ضد الحكم الملكي وكان يتحسر على العهد الملكي، وأن آمالنا في أن يحترم العهد الجمهوري القضاء والقوانين انهارت بسبب تدخل الجيش بالسياسة والقضاء وتوالي الانقلابات والكوارث على البلد».

ومن يتتبع الحياة الاجتماعية لبرهم صالح سوف يتأكد أن طبيعته لم تتغير منذ طفولته، فهو اليوم ما يزال محبا لأصدقائه، وحريصا على تكوين علاقات اجتماعية متميزة تماما مثلما كان في طفولته.


وبدوره يتحدث صالح عن هذه الطفولة اعتمادا على ما سمعه من والدته، فيقول: «حسبما تذكره لي والدتي فإنني في طفولتي لم أكن مشاكسا بل اجتماعيا ولي عدد كبير من الأصدقاء على عكس الطلبة المتفوقين في دراستهم والذين ينصرفون إلى الدراسة فقط، وكنت أحب أن ألعب وألهو مع أصحابي.

وحسب بعض أساتذتي فإني كنت طالبا هادئا حتى الدراسة المتوسطة إذ تغيرت الصورة إلى طالب يتحرك كثيرا ولا يعرف الهدوء».


وإذا كان غالبية من الناس يشيرون إلى ظواهر جغرافية أو أحداث اجتماعية أو متغيرات تاريخية تقترن بوعيهم الحياتي، فإن صالح يقرن هذا الوعي بحدث سياسي كاد أن يكون مهما ومغيرا في تاريخ العراق: «ارتبط وعيي السياسي مع التوقيع على اتفاقية 11 مارس (آذار) 1971».

أو ما تسمى باتفاقية الحكم الذاتي للأكراد التي تم توقيعها بين الحكومة العراقية والزعيم الكردي الراحل ملا مصطفى بارزاني، وفيها اعترفت الحكومة العراقية بالحقوق القومية للأكراد مع تقديم ضمانات لهم بالمشاركة في الحكومة العراقية واستخدام اللغة الكردية في المؤسسات التعليمية، ولكن لم يتم التوصل إلى حل حاسم بشأن قضية كركوك التي بقيت عالقة في انتظار نتائج إحصاءات لمعرفة نسبة القوميات المختلفة في هذه المدينة.

وقد تم التخطيط لإجراء تلك الإحصائية المهمة عام 1977 ولكن اتفاقية مارس كانت ميتة قبل ذلك التاريخ حيث ساءت علاقات الحكومة العراقية مع بارزاني وخاصة عندما أعلن الزعيم الكردي رسميا حق الأكراد في نفط كركوك.

واعتبرت الحكومة العراقية إصرار الأكراد بشأن كردية كركوك كإعلان حرب وهذا ما دفع الحكومة العراقية في مارس 1974 إلى إعلان الحكم الذاتي للأكراد من جانب واحد فقط دون موافقة الأكراد الذين اعتبروا الاتفاقية الجديدة بعيدة كل البعد عن اتفاقيات سنة 1970 حيث لم يعتبر إعلان 1974 مدينة كركوك وخانقين وجبل سنجار من المناطق الواقعة ضمن مناطق الحكم الذاتي للأكراد، بل إن الحكومة العراقية ذهبت إلى أبعد من ذلك عندما غيرت الاسم التاريخي لمحافظة كركوك إلى محافظة التأميم.


لقد سبق الوعي السياسي لصالح تدشينه للعمل السياسي الفعلي وهو في الرابعة عشرة من عمره، «مع انتسابي إلى اتحاد طلبة كردستان في السليمانية عام 1974 أي عندما كان عمري 14 سنة، وكان العمل في هذه المنظمة سريا بسبب القتال الذي اندلع بين مقاتلي الثورة الكردية والقوات الحكومية، وقد التحقنا في ذات العام بوالدي الذي كان عضو محكمة الاستئناف في الإدارة الكردية التي شكلتها الحركة الكردية عام 1974 في منطقة حاج عمران وقد ذهبنا كلاجئين إلى مدينة ناغدة في إيران».


يدلي معلمه عزيز، بشهادته عن هذه الفترة، يقول «في الثورة الكردية عام 1974 فرت مئات الأسر من كردستان إلى الحدود» وكانت أسرة الحاكم أحمد، والد الدكتور برهم إحدى تلك الأسر، مستطردا: «ويظهر ذلك جليا أن برهم ذا الـ14 عاما تعرف إلى أجواء الثورة الكردية والدفاع عن الحقوق المشروعة للكرد منذ وقت مبكر للغاية وانغمست هذه الفكرة في روحه الغضة بسبب أفكار والده الوطنية».


لكن الثورة الكردية التي كانت تواجه بمقاتليها (البيشمركة) وبأسلحتهم المتواضعة جيوش الحكومات العراقية المتعاقبة، انهارت في مجابهة تعاون قوة دولتين لإجهاضها، العراق وإيران وذلك من خلال توقيع اتفاقية الجزائر من قبل شاه إيران محمد رضا بهلوي وصدام حسين، نائب الرئيس العراقي وقتذاك والتي تنازل فيها العراق عن الكثير من حقوقه في الأرض والمياه من أجل توقف إيران عن دعم الثورة الكردية ومحاصرتها.


يقول صالح: «في عام 1975 وبعد انهيار الثورة الكردية بسبب اتفاقية الجزائر عدنا إلى السليمانية وانتميت إلى منظمة سرية، لم تكن توجهاتنا واضحة لكن كل واحد فينا كان يبحث له عن دور لمقاومة النظام الذي كان يحكم باستبداد وبقوة الحديد، حتى وجدت نفسي في انتمائي إلى التنظيمات السرية للاتحاد الوطني الكردستاني في أواخر 1976، أي بعد عام من تأسيسه، بزعامة جلال طالباني، بدافع العمل من أجل تحرير العراق وكردستان وإنهاء الحكم الفاشي».


ويدلي مدرسه عزيز بمعلومة عن هذه الحقبة، قائلا: «كما سمعنا، فإن برهم التحق بصفوف الاتحاد الوطني الكردستاني عام 1976، ولكن كان ذلك بحسب علمي بعد عودتهم إلى كردستان، لأنه التحق بمدرستنا.

وكان من أذكى طلابنا».


بالتأكيد لم يكن الفتى برهم يفكر وقتذاك، وهو ابن الرابعة عشرة من عمره، في أنه سيكون قائدا سياسيا من طراز خاص عندما راح يعمل بجد في العمل السياسي، وهذا العمل لم يكن مجرد لعبة بل كان مغامرة خطرة، ففي حمأة بطش السلطات الأمنية وقتذاك كان يمكن أن يفقد حياته، على الرغم من أنه كان يمكنه أن يهنأ بحياته الميسورة، لا سيما وهو الولد الذي يفترض بأنه كان مدللا في عائلته، وكان يمكنه أن يختار مغامرة أو لعبة أكثر أمنا واطمئنانا لا سيما أنه يعرف ويدرك بوضوح نتائج ما هو ذاهب من أجله، لكن المسألة بالنسبة له ولدت كفكرة نضالية من أجل ناسه وأهله، يقول: «كانت أجواء العنف هي الغالبة فلم يكن في الحسبان تبوء منصب سياسي حكومي في المستقبل بأي شكل من الأشكال.

وكشاب يافع لم يكن عندي سوى الدافع الثوري الوطني لا سيما أن قسما من زملائي الذين التحقوا بالثورة الكردية استشهدوا وقسما آخر تم اعتقالهم وتعذيبهم».


وهذا لا يعني أنه كان مجردا من أي طموح سياسي، يقر قائلا: «لا أريد أن أقول إنه لم يكن عندي طموح قيادي، وهو طموح مشروع لكل سياسي، ولكن الطموح الأهم والأكبر كان هو التفاني في خدمة الثورة والمقاومة والقضية»، مستدركا: «لم يكن عندي طموح لأن أكون في هذا الموقع (رئيسا لحكومة إقليم كردستان) ولا في المواقع السابقة التي تبوأتها».


الظروف السياسية هي التي رافقت مقادير الفتى برهم، وهذه الظروف هي التي رسمت له واقعه الراهن، وشكلت درب مستقبله، وكانت في مقدمتها قضيته الكردية وقضية أهله وناسه، وشاءت الصدف أن تتلاءم هذه الظروف مع الفترة العمرية التي يمر بها، وهي سنوات المغامرة واكتشاف الذات والتحدي من غير حسبان عواقب ما سيجري، والشعور بالتمايز والتفوق وكأن التفوق الدراسي لم يكن كافيا لإشباع ذاته الطموحة.

يقول: «أول حدث سياسي واجتماعي كبير أتذكره هو اتفاقية مارس التي غيرت الأوضاع السياسية والاجتماعية في كردستان، إذ تميزت السنوات ما بين 1972 و1973 بالحراك السياسي والثقافي والاجتماعي، وهي فترة رائعة آنذاك، وكنت في السليمانية وقد شجعت هذه الظروف الكثير من شباب جيلي، وأنا من ضمنهم، على العمل السياسي المبكر».


ومرة أخرى يجد برهم نفسه أمام مفترق جديد يجبره على أن يغير خططه ودروبه، لكنه مفترق سوف يزيد من إصراره على مواصلة طريقه في العمل السياسي، بل ويتناسب مع تطلعاته في خدمة الثورة الكردية، ففي «عام 1974 انتقل والدي إلى أربيل، والعراقيل التي رافقت تطبيق اتفاقية آذار أدت إلى أن يلتحق والدي بالثورة كإداري مع صالح اليوسفي ولم يكن ضمن قوات البيشمركة، بل اشتغل على تأسيس الإدارة الكردية وصار رئيسا لمحكمة الاستئناف حيث كانت هناك إدارة في الجبل، ونحن العائلة عدنا إلى السليمانية لأن الأوضاع صارت صعبة في أربيل ومن هناك التحقنا بوالدي ومن ثم إلى مدينة (نغدة) الإيرانية وبعد عام انهارت الثورة الكردية، وفي عام 1975 عدنا مع والدي إلى السليمانية فتم نفي والدي إلى مدينة السماوة حتى عام 1979»، موضحا: «نحن لم نذهب مع والدي إلى السماوة بل بقينا في السليمانية».


لم يؤثر نفي السلطات الأمنية في السليمانية لوالده على النشاط السياسي لبرهم، بل على العكس من ذلك زادته هذه الحادثة إصرارا وإيمانا وثقة بما كان يقوم به، والأكثر من هذا صعد من نشاطه السياسي من غير أن يتنازل عن تفوقه الدراسي، بل كان تفوقه في المدرسة سلاحه في لدفاع عن نشاطه السياسي، يتذكر قائلا: «في عام 1976 نشطت في العمل السياسي السري وكنت أتحرك كثيرا واقرأ، من غير أن أتهاون مع نفسي في دراستي، وهذا ما جعل والدي يقلق علي إذ كان يتابع نشاطي السياسي وتحركاتي عن قرب بواسطة الأقارب الذين يبلغونه بهذه التحركات وتلك النشاطات السياسية، وكان قلقا مما كان يعتبره تحديا للبعثيين، وكانوا (أقاربي) يفعلون ذلك انطلاقا من حرصهم على حياتي فالأجهزة الأمنية البعثية كانت قاسية للغاية ولا تميز بين نشاط وآخر، أو بين شاب وشيخ، لكن والدي كان يعرف أني متفوق في الدراسة على الرغم من نشاطي السياسي وهذا ما كان يبرر لي مواقفي وأنشطتي».


وكأنه أراد، برهم، أن يختبر التصادم الأول بينه وبين الأجهزة الأمنية وقتذاك، وأن يرحل نشاطه السياسي إلى مرحلة المواجهة، يتذكر: «حدث في بداية عام 1977 أنه كان هناك مهرجان طلابي خطابي، فرشحت من قبل مدرسة شورش للمشاركة في هذا المهرجان وقدمت كلمة عن فلسطين وأشجار الزيتون، لهذا سهل القائمون على المهرجان، وخاصة الاتحاد الوطني لطلبة العراق، البعثي، مشاركتي، لكنني عندما وصلت إلى المنصة غيرت اسم فلسطين أينما وردت في الخطابة إلى كردستان، وبدلا من شجرة الزيتون ذكرت شجرة البلوط، فتلقى الحضور الكلمة بالتصفيق والترحاب، وكنت أنظر إلى مدرس اللغة العربية الذي رشح خطابتي للمشاركة وقد غرق في عرقه خشية من النتائج، وما أزال أتذكر المشهد حتى اليوم، بينما كان مدير النشاط المدرسي في مديرية تربية السليمانية، وهو خال والدتي يشير إلي لمرات عدة بالنزول وترك المنصة والتوقف عن إكمال إلقاء الخطابة، لكنني أكملتها وسط هياج الجمهور، وما إن انتهيت من خطبتي حتى سارع مسؤول الاتحاد الوطني الكردستاني إلى إخراجي من القاعة، ولولا خشية البعثيين وقتذاك من حدوث مصادمات بينهم وبين الطلبة الأكراد الذين تحمسوا لكلمتي لتحولت إلى واقعة لا تحمد عقباها، مثلما يقال».


لكن هل يمضي مثل هذا الحدث من دون أي نتائج، خاصة أن البعثيين كانوا يتربصون بمثل هذه اللقطات في المشاهد اليومية في المدن الكردية، فالقصة لم تنته عند خروج برهم من القاعة وغيابه عن أنظار عناصر الطلبة البعثيين ورجال الأمن الذين ذهبوا إلى بيت عمه باعتباره ولي أمره في غياب والده، يقول: «عناصر الأمن البعثية ذهبت إلى بيت عمي بحثا عني لأن والدي لم يكن موجودا في السليمانية وقتذاك، بينما أنا عدت إلى بيتنا، فاقتادوا عمي إلى دائرة الأمن وأخذوا منه تعهدا بعدم تكراري ذلك».


وضعت حادثة المهرجان الخطابي برهم تحت مجهر السلطات الأمنية التي أدرجت اسمه في برامج مراقبتها له، وحسبما يوضح: « بدأت السلطات الأمنية تراقبني كونها أدركت أني على صلة أو عضو في تنظيمات سرية، وخشي أقاربي علي من هذه النشاطات التي كانت تعرف بها والدتي فهي لم تكن تشجعني خوفا علي من بطش الأجهزة الأمنية لكنها كانت تساندني».

الشرق الأوسط

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…