على مدى عقود زمنية، كان ينظَر إلى إقليم
كردستان ومن خلال هامش من الحكم الذاتي على أنه قد أخذ أكثر مما يستحق من جهة
المعتبَر ” المركز “: حكومة بغداد. بالمعنى العملي: يبقى الهامش واقعاً
على محيط المركز ومشدوداً إليه، ليس هذا فحسب بل يكون معناه ومغزى وجوده مرهونين
بالمركز، وفي الترجمة المشخصة: قدّم الكُردي هنا بصفته الآتي عن طريق المركز،
والمعرَّف به من خلاله، وأن أي نشاط يقوم به لا بد أن يجد تصريفاً له من قبَل
المركز .
لكن المركز هنا ليس أي مركز، والهامش”
الإقليم ” ليس أي إقليم، إذ بما أن المركز لم يستقر طوال عهود تشكله، على
الصعيد الأمني، وجهة التداعيات السياسية، أي من خلال نظام الحكم وتدبير السلطة وفن
إدارة المجتمع ضمناً، فإن المحيط عاش ويعيش في تبعية متأثراً وأي تأثر بالتداعيات
السياسية والأمنية وسوء الإدارة في المركز بالذات .
حالة ما قبل سن النضج، إن جاز التعبير العضوي، وهو ما ينعكس في مجمل الممارسات
السياسية والاجتماعية اليومية، ولأن المركز يمحور كل شيء حوله، فإنه يعتبر كل خلل
يشهده في محيطه على أنه مهدّد له، أنه منه
براء، وبالتالي، يكون المحيط: الهامش الممثَّل في الإقليم خاضعاً لابتزازات الآخر.
في التقييم السياسي، يبدو الإقليم في مقام
الدولة الكاملة البنيان، أو هكذا يُتصوَّر، من خلال الضغوط عليه وملاحقته، ومساءلته فيما لا دخل
له فيه، بالعكس، إن وضعاً متردياً في أمنه قبل كل شيء، يعيش الهامش: الإقليم تحت
وطأة ضغوط مركزه .
بالنسبة للكردي، لكَم صوّر من منظور ” قلب العروبة
النابض هنا ” وفي أمكنة أخرى، وحتى بالنسبة لمجمل الدول العربية التي
تتعامل عبر أنظمتها مع شعوبها باعتبارها رعايا، أي حيث تكون الرعوية يكون
الاستبداد في الحكم، صوّر الكردي هذا كثيراً على أنه ” السوسة ”
التي تنخر في ” شجرة ” الأمة العربية ، وجرّاء شعارات مضخمة، لئلا يُرى
الحاكم الفعلي، ولا سلوكيات نظامه، وأنه بقدر ما يكون الشعار كبيراً، تتسع المسافة
بين ولي الأمر في السلطة والذين يسوسهم بتعليمات موجَّهة. لكم صوّر ولا زال يصوَّر
الكردي على أنه وراء كل بلية اجتماعية وسياسية واقتصادية في البلاد.إن إيجاد العدو
الداخلي ضمان أمن سياسي لواهمه كثيراً، ومقدرة معينة على إبعاد الأعداء الفعليين
خارجاً أكثر.
ولمن يريد التحري، فإن ذلك ممكن تجلّيه من
خلال تلمس تلك الممارسات التي تمثلت في حكومة المركز، وعبر توجَّه الأنظار إلى
المحيط: الهامش: الإقليم، ليكون الكرد” الأكراد ” في الواجهة،
وفي المنظور السيميائي: المحيط هو الطرف، والطرف يسهّل دخول الأعداء، بقدر كما
يبقي المركز تحت التهديد، كما لو أن كل أنواع العقاب المنزلة بهم قد استحقوها .
مع منح حكومة المركز كامل الصلاحيات، مع ما
يترتب على هذا الامتياز من إمكان القيام بأي مسلك دون مراجعة أحد، أو توقع
المساءلة منه، كان ولا زال، وبصيغ شتى، اختزال الكردي في مجموعة عرقية
محدودة” أقلية ” وليس ضمن مفهوم اثني/ قومي، وفي علاقة مع جغرافيا
مصادرة من اسمها ومساحتها، وهو الإجراء الذي عمِل عليه كثيراً وبمزيد من الذكاء
السياسي الشعبوي وعلى أعلى مستويات: من البيت حتى الجامعة، وفي الشارع و”
المؤسسة ؟ “، حتى بالنسبة لمقيم في الصومال وموريتانيا و” جزر القمر
“، عبر تقديم الكردي دون تاريخ يُذكر، إنما بتاريخ طارىء عليه هو الأساس من
جهة حكومة المركز، ليبقى الكردي في واجهات اهتمامات الإنسان العادي والمتوسط
والأكاديمي بالمقابل، ولكل منهم نصيبه في عملية استيعاب جنوح الكردي ومساعيه
المستمرة للمس بمقدسات الأمة العربية ووحدتها.
حتى بعد زوال الطاغية صدام، بقي من يهتم
بأمره ويتمثل شخصه ولو بصياغات أخرى، في التعامل مع الإقليم، لحظة النظر في كل ويلات
العراق وعدم تسميتها باسمها: زماناً ومكاناً، إنما يُتردد داخلاً وخارجاً، على أن
ذلك صناعة: كردية قبل كل شيء. إن تهويل الحالة يترافق مع تضخيم الصورة المشوهة
للكردي بصفته رمز الشر الأكبر.
وما أسهل النظر في الغزو الداعشي باعتباره
” ابتداعاً ” مركزياً، وحتى بالنسبة للذين واجهوا الحكومة، لم تتغير نظرتهم عمن يخاصمونهم في
المركز ذاك تجاه الكرد، في محاولات مستميتة لاستئصال جذور ” الشر ” هنا
.
خلط المفاهيم عن سابق تصور وتصميم بضاعة مصنَّعة
تحمل بصمة المركز المفتئت من الداخل، لحظة تجاهل أنه المركز ليس حباً في التواضع ونفي السلطة وغوايتها،
وإنما تهرباً من المسئولية وتبعات مآلها التعسفية، ليبرز الإقليم في موقع الدولة،
كما أسلفت، ويبقى المركز هو الإقليم، وهي مفارقة من مفارقات التاريخ الكبرى في
المنطقة في أذهان الذين تقاسموا جغرافية كردستان وحاولوا العبث بمصير شعب كامل،
ويريدون السير على المنوال ذاته ما بقي دهرهم وللعرب المولعين بالسلطة في المركزة
الضاغطة السهم النافذ، وهي المفارقة التي تحيل تاريخ هذه الأنظمة إلى مجال سخرية
التاريخ بالذات، بقدر تجاهلهم للمستجدات ومتطلبات العصر، إذ حتى بالنسبة لعفريت
القمقم المحكوم بالنفي في أعماق البحار، وكما تقول الحكاية، موعود من داخل الحكاية
بأنه طليق ذات يوم، نفياً لأي ثبات أو تأبيد .
ما الذي يمكن أن يفكّر فيه سجان العفريت ؟ لا
بد أن أول ما يتبادر إلى ذهنه: بطشه بالعفريت، واستغلاله وهو داخله، والركض وراء نزواته، وحراسة
العفريت بالذات واجباً أخلاقياً ومكلفاً، وأن الأخطاء المرتكبة مرتبطة بصلب عمله
العتيد، سوى أن الذي لا يُسمى هنا خوفاً، هو: كيف سيكون شأني إذ يتحرر العفريت وقد
بطشت به طويلاً طويلاً ؟
مع زوال ” العدو ” الداخلي، لا
يبقى سوى العدو الفعلي المستبد بالمجتمع: ولي أو ولاة أمره ! ولعلها المعادلة
السحرية التي يراهن عليها ظلَمة مجتمعاتهم تلك التي تختزل الكرد أكراداً.