د. محمود عباس
حلقة توضيحية، حول قضية ندرة ورود اسم الكرد في التاريخ، متممة للحلقات التي ننشرها (هل كان للكرد أدباء وفلاسفة قبل الإسلام) و(مصداقية المثقف العربي…) …
بالنسبة لورود صفة (كرد) مع أسماء الملوك، كجزء متمم لكلمة سابقة، يذكر المؤرخ آرثر كرنستنسن، تاريخ يزدكرد الثاني في كتابه السابق، في الصفحة (146) “وإذا تقصينا المصادر النصرانية، فإن أمراً خاصا يلفت نظرنا: وهو الحرمة العظيمة التي كانت للشمس في الديانة المزدية الساسانية، فيزدكرد الثاني يقسم (بالشمس) الإله الأعلى، الذي ينير الدنيا بأشعته، والذي يدفئ بحرارته المخلوقات جميعاً.
ثم هو يكرر ثلاث أو أربع مرات القسم الصريح بالشمس” وفي رواية أخرى عن مذهب الزروانية التي سادت الديانة الزرادشتية في عهد الساسانيين يقول المؤرخ آرثر في نفس المصدر في الصفحة (141) ” وأما ما يتعلق بالعلوم الدينية الزروانية، فإنه يجب البحث عنها كما فعل نيبرج في الآداب البهلوية، وخاصة البندهشن الذي حفظ في نسخته الإيرانية، عبارات زروانية، وفي –المينوكك كرد-الذي هو زرواني”، ويقول المؤرخ آرثر كريستنسن في كتابه المذكور، في الصفحة (131) ” والأوستا الساسانية، التي لم يبقَ منها اليوم غير أقلها، والتي لدينا مختصر منها في الكتابين الثامن والتاسع من الدينكرد، جمع للنصوص البهلوية ترجع إلى القرن التاسع، لم تكن قاصرة على النصوص الخاصة بالعبادات فحسب بل كانت في الوقت نفسه نوعاً من دائرة معارف تحوي العلوم كلها”. وعلى الأغلب هذا الكتاب الديني المقدس كان موجودا في بدايات انتشار الديانة الزردشتية، وضاعت مع ظهور الإغريق أولا والعرب المسلمين ثانيا، وفي الحالتين على خلفية دينية، أعيد محاولة كتابتها في القرن التاسع، وظل معروفا بـ (دين كرد) وكلمة دين على الأغلب فرضت ذاتها بسبب هيمنة اللغة العربية، وتعكس الكثير، منها أن الذين حافظوا على الديانة الزردشتية والمانوية، والمزدكية، هم ملوك الكرد الساسانيين، الذين تنقلوا بين الديانات الثلاث، ومذاهبها، وبعضهم تم تسميتهم في التاريخ العربي بالمجوس. ولم تقف صفة (كرد) على الملوك والكتب المقدسة بل تعدت إلى العمران، فإلى جانب مدينة تيسفون أفضل مدن كسرى أنو شيروان، والتي هجرها، بنى مدينة سماها بـ (دستي كرد) والتي تقع بين همدان والمدائن، وفيها تزوج أخت بهرم جوبين الكردية، والتي وصفتها زوجتها الأولى النصرانية شيرين بالمتوحشة والشيطانة، بعد قتلها لأحد ملوك الساسانيين الذين قاموا ضد أخيها بهرم.
بقي أسم الكرد محصوراً في طي هذه الصفات، ولم يأخذ مداه الشعبي، والكلي، كمصطلح يعكس كلية شعوب المنطقة كما هو الأن، بين العامة، وفي الكتب، ولم يتناولهم المؤرخون بشكل عام إلا في منتصف الخلافة العباسية أي بدايات القرن التاسع الميلادي، وفي هذا يقول: أرشك بولاديان في مقدمة كتابه (الأكراد من القرن السابع إلى القرن العاشر الميلادي وفق المصادر العربية) في الصفحة(16) ” يتم ذكر مصطلح الأكراد والكرد في المصادر التاريخية والجغرافية المكتوبة بالعربية في القرون الوسطى وفي الروايات التي تحمل السمة التاريخية والأسطورية. وفي فترة الحكم الأموي والعباسي بدأ المؤلفون الذين كتبوا بالعربية باستخدام مصطلح الكرد وإطلاقه على الشعوب الإيرانية التي سكنت في مناطق الخلافة؛ إذ كانوا يستخدمون دوماً صيغة الأكراد والكردي، أما صيغة الكرد بالمعنى العلمي التاريخي للكلمة فنادراً ما استخدمت. وفي نهاية القرن التاسع عشر ظهرت وجهة نظر في دراسات المستشرقين ومفادها بأن مصطلح الكرد في المصادر العربية يعني القبائل التي تتكلم اللغة الإيرانية وتعيش في الجبال وتحيا حياة الرحل، ويتجلى هذا الرأي في أبحاث نولدكه، بارتولد، مينورسكي، ويلتشيفسكي، ليمبتون، آكوبوف، فاسيليفا، وغيرهم” وكان قد بين في الصفحة (11) عن حقيقة مهمة حول غياب أسم الكرد قبل هذه المرحلة، فيذكر بأنه ” في هذا الصدد ينبغي الإشارة إلى أن التفاصيل المتعلقة بوضع الأكراد في بدايات القرن السابع ظلت غائبة، وهكذا يعتبر في حكم المفقود كتاب الأكراد والقلاع للمؤرخ المشهور المدائني (752م-839م). وكذلك لم تصلنا مؤلفات (سحيم بن حفص أبو اليقظان) (القرن الثامن) …” ويأتي على أسماء بعض المؤرخين العرب الذين يذكرون مصادر لا وجود لها الأن وهي في عداد المفقودات.
والطفرة التي ظهرت فجأة بين المؤرخين المسلمين، بعد القرن الثالث الهجري، بنيت على خلفية إزالة التعتيم غير الواضح أسبابه، فبدأوا يكتبون عن الكرد، بعد أن تمكنوا من التغلغل في مناطقهم الجبلية، والتي كانت حتى قبل ذلك حكرا على الحملات العسكرية، أي في المرحلة التي تخلى فيها الكرد عن مقاومة الغزوات العربية الإسلامية، وبدأوا الاعتناق بالدين الإسلامي، وتم على أثرها الاختلاط بالعرب، وأزداد اهتمام المؤرخين المسلمين بهم كشعب مسلم، وظهرت محاولات البحث عن تاريخهم، وعليه يذكر المؤرخ أرشك بولاديان، في مقدمة كتابه المذكور سابقاً، في الصفحة(9) ” نتيجة تحليل مصادر القرون الوسطى من هذه الزاوية يمكن الاستنتاج بأن المؤلفات العربية ما بين القرن التاسع والخامس عشر الميلادي، تحتوي على معلومات قيمة عن الأكراد” وهنا يطرح السؤال ذاته، أين كان الأكراد قبل هذا التاريخ؟ هل التقصير من المؤرخين، أم أنه لم يكن للعرب المسلمين مؤرخون ولم يؤمنوا بالنسخ حتى نهاية القرن الثالث الهجري؟ أم أن الكرد ظهروا فجأة في المنطقة وفي هذه الفترة الزمنية؟ ولماذا لم يكتب عنهم المؤرخون سابقاً بالكثافة التي كتبوا فيها عنهم في القرون المتأخرة؟ ألم يكونوا بنفس النسبة السكانية وعلى المستوى الحضاري وكانوا أصحاب الحضارة مثل الفرس؟ هذه الأسئلة وغيرها يجب التنقيب عنها والبحث فيها والاستقراء، لوضع أجوبة لها.
والسؤال الجدلي هنا؟ لماذا، وبعد قرون على الحضارات، أصبح هذا المصطلح أو الصفة (كرد) اسم لشعب كامل، يمتد بجغرافية وديمغرافية أوسع وأكثر من الفارسية في الوقت الذي حكمت فيها السلطات الفارسية قرون طويلة؟ ما هي أسباب هذه التحويرات؟ فهل كان الحضور الكردي كشعب، أو كمجتمع أوسع من ميديا وساسان والبارثيين، وشكلوا الغطاء الشعبي الأوسع، والظهور كان يحصل من ضمن قبائل تابعة لكلية الكرد؟ وماذا كان سيحصل لو أن اسم ميديا أو برثيا انتشرا عوضاً عن الكرد، أو لو كنا نعرف اليوم بالميديين، أو الساسانيين بدل الكرد؟! فهل كنا سنلاقي نفس الإجحاف التاريخي والجغرافي والسياسي، من قبل الغزاة العرب والمحتلين الفرس والأتراك؟ والدول الكبرى التي استعمرت المنطقة وقررت مصيرها؟ وهل كان المؤرخون سينكرون التاريخ الميدي، مثلما يفعلونه بالتاريخ الكردي، على خلفية عدم حضور أسمهم بقدر حضور الميديين والساسانيين؟ وهل كان التاريخ سيمدنا بالقوة الكافية لتكوين دولتنا كردستان، أو ساسانيتان أو ميديا ستان؟
لا شك هذه التحويرات، فتحت الأبواب لمؤرخي الحركات العنصرية في السلطات المعادية للكرد، على فبركة التاريخ الكردي، والطعن فيه كلما سنحت لهم الفرص، فإلى جانب الفبركة، يحاولون الاستناد على غياب اسم الكرد بمقاييس ما ورد فيه الفرس أو العرب، في الماضي، والتشكيك في حيزهم الجغرافي التاريخي، وبالتالي الطعن في القضية القومية الكردية. وبعد تهافت الأساليب الكلاسيكية القديمة التي تم فيها التعتيم على الوجود الكردي، بدأت تظهر محاولات للنهش في جغرافيتهم من خلال تشويه وفبركة التاريخ.
نحن ككرد اليوم أمام قضايا مصيرية، تاريخية، وجغرافية، وسياسية، وحروب عدوانية تختلف عن الماضي، ومن المهم لنا كشعب، تصعيد الثقة بالذات وبتاريخنا، وبوجودنا كأمة صاحب حق، والأهم معرفة بأنه لنا طاقات خام كافية ليس فقط لتحرير مجتمعنا من الاحتلال، بل ربما قيادة مجتمع الشرق الأوسط، إلى حيث الأمن والسلام والعدالة في الحقوق. فالشعب الذي ظل صامداً أمام كل الكوارث، والغزوات المتنوعة الأشكال من قبل الأعداء، وبقي محافظاً على لغته، وجغرافية بحجم كردستان، حتى ولو كان اليوم خارج الواقع الفعلي، فلابد وأنه يملك الإمكانيات التي ستنقذه كشعب وقومية، وسيخلص الشعوب المجاورة من الظلم والمعاناة، فقط نحتاج إلى بعض اليقظة مقرونا ببعض التلاحم والقليل من العمل المشترك.
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
1/4/2107م