شيركوه حسن
بداية لابد ان نشير الى ان حق تقرير المصير: هو مصطلح في مجال السياسة الدولية والعلوم السياسية يشير الى حق كل مجتمع ذات هوية جماعية متميزة (شعب – مجموعة عرقية وغيرهما ) ناطقين بلغة واحدة, ذي ثقافة مشتركة ضمن منطقة جغرافية محددة, بتحديد طموحاته السياسية وتبني الاطار السياسي المفضل عليه من اجل تحقيق هذه الطموحات وادارة حياة المجتمع اليومية دون تدخل خارجي او قهر من قبل شعوب او منظمات اجنبية.
كان مبدأ حق تقرير المصير من اسس معاهدة فيرساي التي وقعت عليها الدول المتقاتلة في الحرب العالمية الاولى, والتي انتجت دول جديدة في اوروبا بعد انهيار الامبراطورية النمساوية المجرية والقيصرية الالمانية, كما ان هذا المبدأ كان اساس سياسة تأسيس دول مستقلة في افريقيا واسيا وتحررها من الاستعمار الاوروبي.
اعتماداً على ذات المبدأ انقسمت دول ذات نظم فدرالية مثل تشيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا نتيجة عدم تمكن الشعوب المؤسسة لتلك الفدراليات من الحفاظ على جهاز الادارة المشتركة لمدة طويلة لتفاقم الخلافات الداخلية فانفصلت الاقاليم ذات الهوية المشتركة واسست دول مستقلة عند توافر اللحظة التاريخية المناسبة.
ان حق تقرير المصير هو حق لكل مجتمع ذات هوية جماعية متميزة وهو ما ينطبق على المجتمع الكردستاني وهذا الحق غير مشترط بشكل الدولة سواء كانت مركزية ام فيدرالية وان كانت تمتلك دستور دائم ام مؤقت فحق تقرير المصير للشعوب احدى الحلول السلمية الناجعة للفصل بين المجتمعات المتباينة والحبلى بالإشكالات والخلافات العصية عن الحل وهو اهم ميثاق من مواثيق الامم المتحدة وحقوق الانسان.
بالعودة لديباجة الدستور العراقي فهي تؤكد على ما يلي:
1- إن العراق بلد متعدد القوميات والمذاهب أي انه يتكون من مجتمعات متباينة لغة وثقافة وبالتالي فان حق تقرير المصير هو استحقاق مجتمعي لأي مكون من مكونات المجتمع العراقي وليس للكرد وحدهم .
2- ركزت الديباجة على أن يكون العراق الجديد عراق اتحادي ديمقراطي تعديدي يحترم فيه حقوق الجميع دون تمييز حيث جاء فيها بعد سرد مجموعة المظالم التاريخية التي ألحقت بالمكونات المختلفة اقتباس / فَسَعينَا يَدَاً بيَدٍ، وَكَتِفاً بِكَتفٍ، لِنَصْنَعَ عِراقَنَا الجَديدَ، عِراقَ المُسْتَقبلِ، منْ دونِ نعرةٍ طَائِفِيةٍ، وَلا نَـزْعَةٍ عُنْصُريةٍ، وَلا عُقْدَةٍ مَنَاطِقِيةٍ، وَلا تَمْييز، وَلا إقْصَاء/انتهى الاقتباس.
3- تحتوي الديباجة على تعهد واضح وصريح من كافة المكونات المشكلة للمجتمع العراقي والمؤسسة للدولة العراقية الجديدة الابتعاد عن كل ما سبق ذكر في هذه الديباجة من مظالم ارتكب بحق المجتمعات العراقية المتباينة والذي اختار بإرادته الحرة هذا الاتحاد وهو الضامن لديمومته حيث جاء اقتباس / نحنُ شَعْب العراقِ الذي آلى على نَفْسهِ بكلِ مُكَونِاتهِ وأطْياَفهِ أنْ يُقَررَ بحريتهِ واختيارهِ الاتحادَ بنفسهِ، وأن يَتَّعِظَ لِغَدِهِ بأمسهِ، وأن يَسُنَّ من مِنْظُومَةِ القيمِ والمُثُلِ العليا لِرسَالاتِ السَماءِ ومِنْ مسْتَجداتِ عِلْمِ وحَضَارةِ الإنْسَانِ هذا الدُسْتورَ الدائمَ. إنَّ الالتزامَ بهذا الدُسْتورِ يَحفَظُ للعراقِ اتحادَهُ الحُرَ شَعْبَاً وأرْضَاً وسَيادةً / انتهى الاقتباس.
إذاً الدستور العراقي هو عبارة عن عقد اجتماعي صيغ بين المكونات المختلفة والمشكلة للمجتمع العراقي بصيغة توافقية بالإرادة الحرة دون إكراه على أساس المساواة والعدل واحترام الحقوق دون تمييز ونبذ كافة أشكال الهيمنة الجهوية والطائفية وغيرهما.
ما هي المقدمات الفعلية والتي دفعت القيادة الكردستانية لإجراء الاستفتاء.
عراقياً كون المجتمع العراقي مجتمع متعدد القوميات والمذاهب فهي قومياً تنقسم إلى قوميتين أساسيتين هما العرب والكورد ومذهبياً بين شيعة وسنة إضافة إلى باقي المكونات العرقية والدينية والمذهبية وهنا لا اقلل من شأنهم فهم جزء من المجتمع العراقي وان كانت نسبتهم السكانية اقل, فنتيجة العقلية الشمولية التي تتسم بها مجتمعاتنا الشرق أوسطية ككل والحالة العراقية منها, ففي عهد النظام السابق تعرض الكرد والشيعة إلى انتهاكات وصلت إلى حد الإبادة الجماعية على يد ذلك النظام واحتسبت تلك الجرائم على المكون السني كون رأس النظام حينها كان من العرب السنة وما أن انقلبت الأمور واستلم الشيعة مراكز القرار في العراق بعد الإطاحة بالنظام السابق وانطلاقاً من نفس الذهنية الشمولية بدءوا ينتقمون من المكون العربي السني بداية تحت مسميات مختلفة اجتثاث البعث محاربة أزلام النظام السابق وأخيراً وليس أخراً مكافحة الإرهاب بعد أن سمح لداعش بداية السيطرة على مناطقهم ليتم على أثرها تدمير مناطقهم وتشتيت مجتمعهم وهنا لست بوارد الدفاع عن المجرمين والقتلة وإرهابيي العصر لكن ما هو مسلم به إن الأنظمة الشمولية والدكتاتورية لا تستثني احد من ممارساتها القمعية فهي تنطلق من ذهنية الولاء والندية في التعامل مع المجتمع وان كان هناك تمايز من فئة إلى فئة أو بين منطقة ومنطقة حيث بدأ العرب السنة يستشعرون الأذى الذي لحق بهم وبدأت أصواتهم تتعالى هنا وهناك رافضين حالة الغبن الذي لحق بمجتمعهم وان كانوا لا يزالون يفتقرون إلى وحدة الموقف بينهم نتيجة تفشي حالة الفساد المستشرية بين طبقتهم السياسية الممثلة الافتراضية لمكونهم وبالتالي هذه الممارسات هي احدي مقدمات تفكك العقد الاجتماعي العراقي.
أما كوردستانياً فليست الحالة أفضل من سابقتها وان كانت الحالة الكردية تتميز بخصوصية اكبر ففي عهد النظام السابق كان هناك تقارب كردي شيعي وخاصة في مراحل تشكل المعارضة العراقية بعد 1991 امتد إلى بداية تشكل العهد الجديد في العراق إلا انه تلقى فيما بعد تحديات جمة نتيجة استئثار السياسيون الشيعة في الحكومات المتعاقبة بالسلطة والتفرد باتخاذ القرارات لا بل وصل إلى القفز فوق الاستحقاقات الدستورية والانتقائية في تطبيق موادها وتجاهل المادة 140 من الدستور وعدم تطبيق قانون النفط والغاز إضافة إلى جملة إجراءات تعسفية منها قطع ميزانية الإقليم المالية ورواتب الموظفين واستحقاقات البيشمركة المالية والعسكرية والارتكاز على الطائفية السياسية في التعامل وإلغاء الشراكة السياسية المبنية بالتوافقات السياسية على أساس المصالح والاستحقاقات المجتمعية للمكونات المؤتلفة للمجتمع العراقي كل هذه العوامل إضافة إلى عوامل أخرى داخلية دفعت بالقيادة الكردستانية التي توجست الخوف من مستقبل العملية في العراق البحث عن البدائل المتاحة للحفاظ على مكتسبات شعب كردستان واستحقاقاته فكان قرار الاستفتاء على استقلال الإقليم وفق مبدأ حق تقرير المصير,
التداعيات المحتملة:
بالتأكيد سيكون لقرار استفتاء المجتمع الكردستاني واختياره خيار إعلان الدولة بالأغلبية الساحقة كما كان متوقعاً تداعيات كبيرة على صعيد العراق والمحيط أولا ومن ثم العالم تالياً خاصة إن الإجراء تضمن حالتين تعتبران خطوط حمر للعراق وكذلك المحيط فبالنسبة إلى النقطة الأولى ألا وهي مسألة إعلان دولة كردية في الجزء الملحق بالعراق والبدء بتغيير الخارطة الجيوسياسية للمنطقة والنقطة الثانية والتي لا تقل جدلاً عن الأولى وهي إن الاستفتاء لم يقتصر على المحافظات الأربعة المشكلة للإقليم حالياً بل امتدت إلى المناطق الكردستانية المسمى بالمناطق المتنازعة عليها ومن ضمنها كركوك الغنية بالنفط والتي طالما ماطلت الحكومات العراقية المتعاقبة لحل إشكالاتها لتخوفها من النتيجة المتوقعة وارتداداتها على المنطقة ككل لذا كانت ردود الأفعال سريعة كما كان متوقعاً وعلى كافة المستويات الا انها ستبقى محدودة التأثير والمدة.
عراقياً : اتخذت الحكومة سلسلة إجراءات تحت ضغط النواب العرب شيعة وسنة في البرلمان العراقي والذين شرعنوا لتلك الإجراءات انطلاقاً من ذات العقلية الاقصائيه والتي كانت السبب الأساس في فرط حالة العقد الاجتماعي في العراق والتي دفعت بالكرد لإجراء الاستفتاء في محاولة من الحكومة العراقية لوأد النتائج بدأً من فرص حصار اقتصادي إلى التلويح باستخدام القوة ضد الإقليم في حال اسمراره وتطبيقه لنتائج الاستفتاء, لكن تلك الإجراءات ستبقى شكلية وتقتصر مؤثراتها فقط على الناخب العراقي سيما ان الانتخابات العراقية قريبة, كون الحكومة العراقية غير قادرة على تطبيقها فعلياً على الأرض لذا استعانت بالدول الإقليمية لزيادة الضغط على كردستان في محاولة منها لكبح الحالة, لكن هذه الحالة ستكون مؤقتة ولن يكون لها تلك التداعيات الخطير التي يهول لها البعض على كردستان أولا لعجز المركز عن تطبيق قراراته خاصة إن تلك القرارات اتخذت كما يقال في العامية / في فورة دم / بغية خلق اصطفاف عرقي ضد كردستان بعد ان نجح النواب الشيعة الايقاع بالسنة في المصيدة بعد دغدغة النعرة القومية لديهم, الا ان المكون السني بدأ يعيد قراءة المشهد بالشكل الصحيح ليتبين انه المكون الأكثر تضرراً من المنحى الاقصائي الذي اتبعته الحكومات العراقية المرتكزة على الطائفية السياسية ليعيد تموضعه من جديد لذا بدأنا نشهد الأصوات السنية المنددة لتلك القرارات والمطالبة بضرورة إعادة صياغة عقد اجتماعي جديد محذرين من تشظي العراق نتيجة تركم أخطاء الحكومات الاتحادية في المركز.
أما دور دول الجوار وخاصة إيران وتركيا بالتأكيد هي ستسعى جاهدة كما الحكومة الاتحادية لكبح الطموح الكردي لذا نراهما يهددان الإقليم لكن اعتقد أن تهديداتهما لن تترجم على الأرض وان ابعد ما قد يذهبان إليه هو التلويح بالحصار الاقتصادي على كردستان لكن باعتقادي هذا أيضاً صعب التطبيق على المدى البعيد لعدة أسباب أهمها :
أ- إن الحصار لن يكون مجدياً إلا إذا كان حصاراً ثنائياً متزامناً أي تركي إيراني في آن واحد وهذا بحد ذاته معقد كون المنطقة تشهد عدة أزمات وحالة احتراب طائفيه قطبيها الأساسيان هما إيران وتركيا وهما في حالة صراع أي إنهما في حالة حرب تقوم عنهما اذرعهما العسكرية في المنطقة فمصالحهما العامة متضاربة وحالة انعدام الثقة موجودة بينهما وان التقيا في الحالة الكردستانية.
ب- لا يوجد تبادل تجاري بالمعنى الدقيق للعبارة كون المجتمع الكردستاني مجتمع مستهلك يعتمد على المنتجات الإيرانية والتركية بالدرجة الاساس أي أن كردستان سوق خصبة للمنتجات التركية والإيرانية إضافة إلى إنها منطقة العبور لتلك المنتجات إلى المناطق الأخرى تصل عائداتها السنوية مليارات الدولارات ترفد ميزانية الدولتين لذا سيكون للحصار في حال تطبيقه انعكاسات سلبية عليهما أكثر مما هو على كردستان لا بل ستدفع كردستان إلى البحث عن بدائل الممكنة بالاعتماد على الذات بانتهاج سياسات اقتصادية أكثر نجاعة مما هو متبع حالياً أي التحول من الاستهلاك والاتكال على المنتجات المستوردة إلى الإنتاج لتأمين مستلزمات السوق المحلية وسيكون لها انعكاسات اقتصادية ايجابية على المستوى البعيد.
ج – الكرد يشكلون كتلة بشرية كبيرة في المنطقة وهم موزعون بين العراق إيران تركيا وسوريا ولهم وزن ودور لا يستهان به لا بل ان قواتهم هي الاكثر فاعلية في محاربة الارهاب سواء في العراق او في سوريا ولهم صراع يمتد لأكثر من قرن مع انظمة هذه الدول وان القيادة السياسية لكردستان العراق هم قيادات مجموعة أحزاب موزعة بين السليمانية وأربيل لهم اختلافات وتباينات في الرؤى وان اتفقت في الهدف لذا لهم علاقات متباينة مع هذه الدولة أو تلك, عليه أجد من الصعوبة أن تفرط هذه الدول بهذه العلاقات وتعادي الحالة القومية بهذا الشكل الفاجر على المدى البعيد في هذه المرحلة بالذات كون الصراع الطائفي لا يزال في أوجه في المنطقة لخشيتهما من أن تستقطب إحداها الحالة الكردية لانعدام الثقة بينهما كما ذكرنا سابقاً.
د – يضاف إلى ما تقدم أن العامل الدولي الذي يدفع باتجاه التهدئة منذ البداية دون ايضاح موقفها بالشكل المأمول كون المنطقة لا تتحمل أزمات جديدة فهي منهكة نتيجة حالة الاحتراب الدائرة ابتدأً من العراق وصولاً إلى اليمن مروراً بسوريا وليبيا وامتداداتها الاقليمية وانشغال القوى العالمية بمحاربة الإرهاب والتي أثقلت كاهل المنطقة وكلفتها مليارات الدولارات وما لحق بها من تدمير للبنى التحتية وتفكيك للمجتمع مما يلقي أعباء كثيرة على كاهل المجتمع الدولي وان كان لا يتعامل من منظور أخلاقي مع القضايا الأساسية في المنطقة فالسياسة لا تبنى على الأخلاق إنما تبنى على المصالح وهذه حقيقة يجب أندركها والقوة وحدها تحدد السياسة لذا يجب أن لا نستغرب كثيراً من المواقف الدولية إن كانت متعاطفة مع هذه القضية أو تلك أو معارضة لها والشواهد كثيرة.
خلاصة القول إن كردستان حققت بخطوتها هذه واقع جديد على الأرض لا يمكن القفز عليه سيلزم باقي الأطراف التعامل مع نتيجته فما بعد25/9/2017 لن يكون كما قبلها وإن كان مسألة إعلان الدولة لا زال بعيد المنال إلا انه سيترتب على نتائج هذا الاستفتاء استحقاقات جمة أهمها إعادة صياغة عقد اجتماعي جديد والتأسيس للجمهورية الثالثة بعد أن فشلت الجمهوريتين الأولى والثانية من حل عُقَد العراقيين وذلك شريطة ترتيب البيت الداخلي الكردستاني والعراقي وتشكيل كتل سياسية متماسكة وقوية / كردستانية – سنية / فاعلة تكبح جناح السطوة الشيعية المستندة على حكم الأغلبية والمرتكزة على الطائفية السياسية, وان أفضل السبل هي بناء عراق كونفدرالي من ثلاثة مناطق كردستانية – سنية – شيعية واعتقد انه وفي القريب العاجل أن العرب السنة هم سيكونون أصحاب المبادرة وانهم لن يكرروا خطأ الماضي بمعارضتهم فدرلة العراق خاصة أنهم هم أول من دفع ضريبة إبقائهم تحت كنف الشيعة في هبة قومية, لذا اعتقد أن الاستفتاء هي بمثابة ضربة على الخدود وترسيمٌ للحدود شريطة الحفاظ على ديمومة تلاحم الجماهير الكردستانية مع القيادة السياسية والثبات على الموقف والحكمة في الادارة واخيراً تبقى السياسة فن ممارسة الممكنات.