ابراهيم محمود
” …إذا قالوا لي: إئت ِ بصوت آخر غير صوتك، فلن أكون قادراً على ذلك “.
جلال الدين الرومي، كتاب: ” فيه ما فيه “.
في مفتَتح فصل له، من كتابه ” بلدي “، يستعين رسول حمزاتوف بالعبارة الشعبية” لقد أدخلت الخيط في الإبرة، فماذا أخيط ؟ “. بالنسبة لمحمود عباس، وفيما رأينا، لقد خاط الكثير، فأي خيط استعمله؟ أي إبرة اعتمدها في خياطته؟ أي نسيج انتقاه لثوبه الكتابي ؟ ألا ما أكثر أنواع خيطه، ما أكثر أثوابه : موضوعاته، ما أوضح إبرته: صنعته في الاختيار. وأحسبني ملازماً الصواب إن شدَدتُ في البداية، على أن وعي ذاته الكردية كان منيراً طريقته في ” مهمته”!
ومن يدقّق في لائحة العناوين التي تحمل موضوعاته مجتمعة، لأدرك في الحال مدى طغيان الهم السياسي عليها، حتى أكثرها تلبُّساً بما هو ثقافي. ربما مسوّغ ذلك، هو أن السياسة، تكاد تمثّل المدخل الرئيس لكل ما يخص مجتمعات المنطقة وأنظمتها على مر التاريخ، وأن الكرد إذا كانوا يُعرَّفُ بهم كضحايا تاريخ ” الآخر/ الآخرين “، فإن المفضَّل: التأكيد على أن السياسة لها الدور الفاعل في تعرُّضهم للنكبات والكوارث، وحتى الصراعات الجانبية، والمكائد العائلية فيما بينهم، وما في هذا ” التعريض “، من جهل نظري وعملي بمتطلبات السياسة وأدوارها.
وكما نوَّهت إلى مدى انشغال الباحث الكردي بمجريات الأحداث على الصعيد ” السوري “، وضمناً: الكردي وما يصله بالدائرة الأوسع: الكردستانية، فإن هذا يبقيه من بين أكثر الباحثين الكرد ممن كادوا أن يتفرغوا لمتابعتها، وما فيها من وضعيات دواماتية، أن يتفاعلوا معها، وأن يكتبوا فيها وعنها، إن لم يكن أولهم، إن راعينا عامليّ الزمن والمسافة: بعده القياسي اللافت عن المكان المأزوم، إلى جانب الزمن الذي يخص إقامته في الولايات المتحدة الأميركية، وخاصية همومه، وهي تتداخل مع وضعه العائلي، وهو في سعي دائب إلى تأمين متطلبات الحياة اليومية، وفي بلد مغاير تماماً عن أوربا الغربية بالذات، حيث العمل الدائم، وصحبته الإرهاق .
كل ذلك، يقرّب المسافة كثيراً، ويختصر الزمن، إلى درجة إلغائهما أحياناً، على النقيض من كم كبير ممَّن يُعدَّون كتاباً: أدباء، باحثين، أو برسم المثقفين” الكرد”: كل ما يسمّيهم في الواقع العملي يدينهم ليس لتقصيرهم في فعل المعايشة الوجدانية، ليس لأنهم كرد حصراً وإنما لأنهم لا يدَّخرون طرقاً في المراوغة والاهتمام بموضوعات لا تحسَب مبدئياً لهم، إنما عليهم، وما في ذلك من خلْق هوَّة واسعة، واسعة جداً، بين مزاعم النسَب الكردايتي، أو المعايشة الأخلاقية، والسلوكيات التي تعرّيهم نفسياً وقيمياً، وهي لا تفسَّر إلا بأمر واحد فقط: الجبن !
ذلك الاهتمام يعزّز جلاء الوعي الذاتي الكردي، وهو نابع من حس مؤكَّد بالمسئولية.
أما من ناحية بنية الكتابة، فيمكنني القول على أن جل موضوعاته التي تتميَّز بطولها النسبي، وارتباطها برصيد مقدَّر من السخط الداخلي، يعرَّف بها في خانة المجابهة السياسية تقديرياً.
إنه الاسترسال المرفَق بتلك الصبغة الإنشائية والتي تمارس تحفيزاً لذات قاهرة ومقهورة في آن:
قاهرة، لحظة تشريح الآخر/ الخصم/ العدو تبعاً لدرجة المخالفة، ومقهورة،لحظة التعبير عن طغيان الآخر والذي ألحق بالذات ” ذاته ” ومن يرى أنه يمثّله، ضروباً من الإيذاء النفسي .
وبغية تجنب التحسس من الصفة الثانية، أشدّد على أنه ليس ” فينا ” من لا يعيش هذه الحالة، على وقع الضغوط المختلفة، مع فارق تحويل المعنَّى إلى خطاب معرفي يترجم بصيرة الذات !
وسأنطلق من مقولة المفكر الفرنسي ” ريجيس دوبريه، والواردة في كتابه ” نقد العقل السياسي “، على أنه ( لا يحوّل المرء إلا ما يعرفه حق معرفته .ص33 )، انطلاقة لا تبعدنا عن الفكرة التي يعتمر بها البحث عموماً، وليس الفرعي فيه، أي ” وعي الذات الكردية “، وأعني ضمناً، ما يبقينا متنبهين إلى ما هو مشار إليه بـ” اقتصاد المعرفة “: كيف يمكنني أن أعبّر عن واقعة ما بطريقة تحافظ على مكانة كل كلمة، كل جملة، دون أن تنافسها، أو تتكرر في غيرها. كيف يمكنني أن أستدعي رصيدي المعرفي وأستلف منه ما يحتاج إليه مقالي/ بحثي، من المفردات بحيث لا تبلبل إحداها الأخرى. كيف يمكنني أن أخلص للموضوع المعنون، وهو يحمل اسمي كاتباً له ومعنياً به، وفي الإطار الذي يلتزم به مسار الكتابة، في نوع النقد، وما شابه، محافظاً ما استطعت إليه سبيلاً على سوية الفكرة دون الوقوع في شرَك عاطفي، أو بلاغي يقلق المعنى..!
أقول ذلك، وأنا أشدّد على أن محمود عباس في الكم الكبير من مقالاته ” أكثر مما هو مسمَّى سالفاً “، لا يمكن مساءلته عن شفافية وعي ذاته الكردية، وحميمية محتواه، إنما ينصبُّ القول النقدي على اقتصاد العبارة لديه، حيث يتوارد شرح الشرح، أو الوصف البلاغي المقلّل من الفكرة المطروحة، إذ إن الاستعانة بجملة تكون ضمان عبور الفكرة أو جانب منها إلى الذهن، لتشكل هذه الجملة مع الجمل الأخرى ما يُسمَّى بـ” نسيج النص “، أو ” جسده الحيوي ” هي المهمَّة، أو بيت القصيد، وليس حشْد مرادفات تعيق بلوغ المراد جهة القراءة.
ومن باب التحاور الفكري، استحضرتُ مجموعة نماذج ” وهي خمسة “، ومن الأحدث إلى الأقدم نشْراً، تقديراً منّي، أنها تستشرف بنا طريقة الكتابة لديه:
في مقاله ” الحورية السورية في مؤتمرات النخاسة ” 4-2/ 2017 “، يمكن قراءة التالي:
( القضية السورية تباع في مواخير الدول الكبرى كعاهرة، تنافس عليها ومنذ البدء من سموا ذاتهم بأصدقاء الشعب السوري، وأعدائه، تعالت الأصوات، وأرتفع السعر، وتصاعدت المساومة إلى المليارات من الدولارات..).
فأنا إذ أقرأ مقطعاً كهذا، يستوقفني الآتي، إن استمرأنا وصف ” الماخور ” وهو مؤلم:
إذا كانت القضية هذه مباعة في المكان المذكور، فليس من داع لذكر ” العاهرة ” أصلاً، لأن الماخور مكان ” موبوء أخلاقياً “، وبه يعرَف، ويعني ذلك، أن هذا التنافس ” اللاأخلاقي “، يستدعي كلاً من ” الأصوات العالية – ارتفاع السعر- المساومة…الخ “، فلا داعي لذلك.
في مقاله” من جنايات محمد جمال باروت – الجزء الأول في 11 ،5/ 2016 “، نقرأ التالي :
( بعد سلطة الأسد والبعث، باشر محمد جمال باروت في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في قطر عمله السابق الذي اشتغل فيه أثناء وجوده في سوريا، مع تقديم كل أنواع الدعم المطلوب له. فأصدر كتابه المذكور هذا، متماهيا بطرق ملتوية لترسيخ جدليته الخاطئة، وغياب الإثباتات العلمية الداعمة لمصداقية مفاهيمه الواردة في الكتاب حول تاريخ وديمغرافية غربي كردستان، ويكون قد تقلد وجهة نظر ورؤية القوميين العرب الذين سبقوه. ).
لاحظوا هنا، أنني لا أتحدث عن الأرضية التي ينطلق منها، وإنما نوعية الكلمات التي يعتمدها، لتعرية حقيقة المنقود، على الأقل، وأنا أشير إلى أن عبارة ” الطرق الملتوية ” لا بد أن تذكّر في الحال بـ” الجدلية الخاطئة “، بـ” غياب الإثباتات العلمية…”، إن تجاوزنا سخونة العاطفة.
في مقاله ” الشخصية الكردية، ج2، في 18-8/ 2016 “، نقرأ هذا المقطع المختار:
( بعيداً عن منطق تدمير ما تبقى من الثقة بالذات الكردية، وللتقرب من معرفة الحقيقة، لا بد من هز مهد النخبة في الحركة الكردية السياسية والثقافية، للاستيقاظ، والنهوض من السبات المهلك، وتكوين الثقة بالقدرات الذاتية، والإيمان بأن الشخصية الكردية تملك أمكانيات التحرر، وقيادة نفسها بنفسها، لا بد من تنبيه بعضنا على أضرار التبعية المفروضة من قبل الأنظمة الإقليمية.).
بالنسبة إلي كقارىء للفكرة المتخلّلة للمقطع، أجد هناك أكثر من شرح لشرح: إن ” هز المهد المذكور ” يقودني مباشرة إلى عالم ” الاستيقاظ “، إلى ” نهوض ما “، وأن ” تكوين الثقة…”،ينبني على ” الإيمان ” المذكور، إلى آخر المقطع.
وفي مقاله .” ميثم الجنابي في تعظيم سعدي يوسف برطانة القرود -الجزء الأول، في 28-11/ 2014 “، يمكن قراءة التالي:
( …من المخجل الرد بنفس الرطانة المشوهة التي طرحوا فيها قذارة أفكارهم، أو مقارعتهم بنفس النوعية من الكلمات البذيئة، والانحطاط الفكري والخلقي والثقافي، لأن الكردي يبقى عزيز النفس مهما كان المقابل مبتذلاً، لن يتخلى عن حمل ونشر ثقافة الإخوة والروح الوطنية، وينأى أن يسقط في الضحالة والمستنقع الذي يسكنه هذين المشوهين فكراً وثقافة…).
نلاحظ أن باحثنا يدخل في نقاش، أو فعل نقد لباحث عراقي معروف، في المجال الفلسفي خصوصاً، ويعني ذلك وجوب المحافظة على لغة موازية، إذ، بالنسبة إلي، لا أجد لزوماً لصفة ” المشوهة “، لأن الرطانة بالذات مشوهة ضمناً، وإن اعتمدنا الصفة والموصوف، فإن التالي يأتي في سلسلة ما يقلّل من عملية النقد، إذ ماذا ينتظَر من هذه ” الرطانة “، أكثر من ” قذارة الأفكار ” وما بعدها.. وأن الكردي العزيز النفس، لن يسقط كنتيجة في ” الضحالة “….الخ.
وفي مقاله ” لنبحث عن موت الكردي حاضراً!، في 31-5/ 2012 “، يمكن قراءة التالي:
( ولتفادي المسيرة الطويلة المؤلمة، والقدر المأساوي القادم، يجب على الحركة السياسية الكردية تغيير مفاهيمهم تجاه الكردي الآخر، وعدم الإستئثار بالصبغة الحزبية الفردية، والإعتراف بالأخطاء أمام الشعب على الأقل، والتنازل إلى سوية التعامل مع الأطراف الكردية الأخرى، من منطق القضية هي الأساس ، وليس أنا القيادي أو الحزب حيث الركيزة.).
حيث يلاحَظ ذلك من ناحية وحدة المعنى: مدى التقارب بين أول الجملتين، وفيما بعد ضبط الصيغة، أي : تغيير مفاهيمها فيما بين أيٍّ من أفرادها وأي كردي آخر، وذلك من منطلق عدم الاستئثار بالصبغة الحزبية الفردية، وهذا يعني لزوم الاعتراف بالأخطاء أمام الشعب على الأقل، مما يعني عملياً: التنازل” النزول ” إلى سوية التعامل مع الأطراف الأخرى، إذ القضية هي المحك، وما تبقَّى بالمقابل، يكون شرحاً مضافاً إلى شرح..
وفي مقاله” جدلية بين الإيمان والإيمان، في 25-5/ 2011 “، يمكن قراءة الآتي:
(ثورات الشرق، الحالية، تدمج عزة النفس مع الواقع الإنساني الملتهب في العقل والغائب حتى قبل حين عن الأرض، لتتشكل منها كتل جماهيرية مفاجئة مصرين على تهديم البناء المخيف حيث أركانه الرعب، يقودهم شباب يتمسكون بمبدأ كلي التكوين، دمجوا فيها القدرة مع الإرادة الصادقة، فهم الآن يهدمون مفاهيم الإنسان المطيع الخانع للطغاة، ويخلقون الحريات المطلقة، ويؤكدون موت حالة الترويض في الإنسان والصمت والخنوع أمام الإملاءات الفرضية من العوالم الفوقية.)، نتلمس وضعاً كهذا: إذ إن الواقع الإنساني الملتهب في العقل يقارب غياب سوية العقل هذا، ولا بد أن ما هو ما مخيف يولّد ما يترتب عليه مع الزمن: الرعب. وإذا كان في هذا البناء التعبيري ما هو مخفَّف، فإن من بين طباع الإنسان المطيع: الخنوع، أما عن مفهوم ” الحريات المطلقة “، فأخشى أن يكون فيها سهوٌ وعدم تركيز، إذ إن المقصد، كما أفهم في العلاقة المنشودة: الحريات النسبية، فلا أكثر إساءة إلى المجتمع من ” الحريات المطلقة “، وإن كنت أقدّر” أو هكذا يبدو لي التعبير “، أن باحثنا يريد تحرراً من الطغيان، وذلك يقودنا مجدداً إلى تكرارات تذهِب بجِدَّة الفكرة:موت حالة الترويض في الإنسان، والمقابلة للإنسان المطيع والخانع، وتالياً الصمت والخنوع، والعوالم الفوقية، وهي تعني إيجازاً: إملاءت فوقية..
هذه النماذج، كما تقدَّم- أقولها مجدداً، اخترتُها من مقالات مختلفة في موضوعاتها، وتنتمي إلى أزمنة مختلفة نسبياً، خلال عدة سنوات تحديداً، وتبيَّن لي ذلك التشابه على مستوى وحدة الحال تقريباً، في بنية التعامل اللغوية، في الوقت الذي أشدّد على حساسية وعي الذات الكردية لديه، تلك التي يُراد لها أن تكون في مستوى المأمول، أي النموذجَ، في ضبط المفهوم وسوية المعنى .
وحسبي أن أشير في المختَتَم هنا، إلى أن اندماجاً نفسياً أكثر من اللازم مع الموضوع، وما يلازمه من توتر، ويتخلله من سخط على الجاري، يستولد حالات من هذا القبيل.
أقولها ، يقيناً ذاتياً منّي أن كل ذلك يسهُل تداركه، بما أن هناك تمثُّلاً سوياً بوعي ذاته الكردية !
دهوك، في 24-2/ 2017 .
5- هذا الدين وبابه السميك