د. محمود عباس
من اللافت للنظر، لو طالت الغزوات العربية الإسلامية حينها الأراضي اليونانية لغابت أسماء فلاسفتهم وشعرائهم وعلمائهم ونتاجهم، ولربما ما كنا سنعرف اليوم شيئا عن سقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم من مدرسي المدرسة الرواقية، مثلما حدثت لفلاسفة ومدرسي مدرسة كنديشابور ونصيبين والرها وأربيل وغيرها، والتي لم تكن أقل رقيا عن المدرسة الرواقية بل وكانت بعضها، حسب المقارنات التاريخية، أوسع اختصاصا، فحتى الهنود واليونانيين كانوا يقصدونها للتعلم، وهذه المقارنة تجري على جميع المدن المحتلة حينها، وخاصة في مراحل الغزوات الأولى.
لنفهم ما حصل لماضينا، ونحن كنا أحد أصحاب الحضارة الساسانية، علينا أن ندرس ما جرى لاحقاً، من خلال ما فعلته السلطات المعادية، وما قام به أعداؤنا من التحريف إلى الفبركة التاريخية، بعد الغزوات بقرون، كما وستبين أن تلك القوى المهيمنة لم تكتفي بما حصل من طمس لأسماء الأدباء الكرد وفلاسفتهم حينها، بل خططت، لإلغائهم كشعب من الحضارة، خاصة في المراحل المتأخرة من الخلافة العباسية، عند صعود العنصر الفارسي والتركي! وهو ما أدى إلى غياب اسم الكرد وظهور الاسم الفارسي مكان الساسانيين.
فالمراجع التاريخية والأنثربولوجية تبين أن حلقات الوصل بين الكرد والفرس كانت متينة حتى الفترات المتأخرة من الحضارة الساسانية، ورغم الصراعات على السلطة، ظلت الثقافة متداخلة في العديد من جوانبها، وتصعيد أي طرف كان على خلفية العنصر المهيمن، فلغتيهما المتشابهة والجغرافية الواحدة حافظت على تداخل العلاقات رغم تناوب الحضارات، فأدباءهم وفلاسفتهم لم يكن بينهم تمييز واضح، من حيث الأسماء والنتاج، وتتبين هذه من خلال التسميات المتتالية لحضاراتهم، والتي لم تسمى أية منها بالكردية أو الفارسية، إلا متأخراً، وعلى الأغلب في منتصف الخلافة العباسية، وتشكلت عند المؤرخين الإسلاميين. وعلى الأغلب الطفرة الانتقالية من الواقع القبلي إلى حيز الشعب ظهرت في نهايات الحضارة الساسانية.
كان التداخل الثقافي والاجتماعي والديني حاضراً خلال الحضارات الميتانية والميدية إلى الأخمينية والساسانية، فحتى عندما كان الكرد فيها يقودون الحضارة الميدية والفرس بدو، كانت شريحة منهم في السلطة، ولولا ذلك لما تمكنوا من السيطرة على الإمبراطورية الميدية ومن داخلها، وعملية اعتماد أحد أمراء الميديين على الفرس لاستلام السلطة معروفة للمؤرخين، لذلك فالمرحلة الأخمينية استمرار للميدية خاصة من الناحية الحضارية، استورثوا أكثر مما دمروا، فتعلموا من الكرد الميديين العديد من العادات والتقاليد الاجتماعية، واستمروا على نفس النهج الثقافي، وأخذوا منهم طريقة استخدام العربات العسكرية في الجيش، وفي هذا يقول ول ديورانت: أن الفرس عندما سيطروا على الحضارة الميدية قلدوا الكرد في أناقتهم وطريقة لبسهم وغيرها من العادات الاجتماعية في الأكل والملبس والمجالس. ولا شك هذا الرقي الحضاري بالنسبة لتلك الفترة الزمنية، كان يرافقه تطور ثقافي، من آداب التعامل إلى الأدب الفكري، كالشعر والفلسفة، وغيرها من المعارف.
رغم قلة الأسماء الثقافية الخالدة من تلك الحضارات، إلا أن تأثيرها استمر على المجتمع حتى بعد قرون من الحكم الإسلامي العربي. وهي الشريحة المنتمية إلى حضارات الكرد والفرس، وليس من السهل عزلهما، وما حدث في القرون اللاحقة من الفرز، وتعريفهم بالصفة الفارسية، كانت على خلفية هيمنة سلطتهم، في عهد الصفويين، والسلطات الفارسية اللاحقة، إلى جانب إطلاق المؤرخين العرب على جميع شعوب المنطقة أسم الفرس، مثلما فعلوها بالشعوب الأوروبية، وتسمية الجميع بالفرنج.
وبداية مرحلة تصعيد الاسم الفارسي على حساب الكردي أو السرياني أو الشعوب الأخرى، تعتبر فترة فبركة وتحريف تاريخ الحضارات المنتمية إليها الكرد والفرس، ولا تختلف عن التزوير الجاري لتاريخ الكرد منذ هيمنة السلطات العروبية. وجميع الأسماء التي سنأتي على ذكرهم الأن كانوا في الماضي يدرجون تحت أسم الساسانيين، أي الكرد والفرس، وما تلاه من التعتيم للكرد وتضخيم الأسد الفارسي، كان تعديا على التاريخ. ولا نظن أن أي مؤرخ صادق يستطيع التحديد الدقيق لانتماء أي من الفلاسفة الروحانيين، أو الأنبياء الفلاسفة : كزرادشت، وماني، ومزدك، والفيلسوف جاماسب، معاصر زرادشت، وكتب عنه كتاب سمي بـ(جاماساب نامك، أي رسالة جاماساب بالكردية والفارسية)، أو الفيلسوف أوستانيس المختلف على أصله بين اليونانيين والساسانيين والمعروف بأنه أوستانيس الزرداشتي وكان مرافقا للملك كسريكسس أثناء حروبه على اليونان، والفيلسوف السياسي تانسار(موباد) كان زرداشتي الديانة وعاش في عهد الملك أردشير، والفيلسوف والطبيب بورزويا عاش في عهد الملك الفيلسوف كيخسرو الأول وضاعت جميع كتبه المنسوخة بالحروف السنسكريتية بعد الغزوات الإسلامية باستثناء كتاب منسوخ بالحروف البهلوية، أخذ عنه أبن المقفع كتاب كليلة ودمنه، والحكيم الأديب الوزير( بزرجمهر) صاحب الوصايا المشهورة، ومنها ” ما ورث الآباء الأبناء شيئاً خيراً من الأدب، لأن بالأدب يكسبون المال، وبالجهل يتلفونه” والملك الفيلسوف (كيخسرو الأول) صاحب الفلسفة التي قال بذاته عنها بانها تبحث عن اكتشاف الحقيقة، وعلى هذا المبدأ فتح المجال لجميع الأديان في مملكته بممارسة شعائرهم، وقال بأنه لا يرفض الناس بسبب دينهم، فاق في ثقافته أو اهتمامه بالعلوم والفلسفة القيصر الروماني الفيلسوف ماركوس أوريليوس (مات عام 180م). ولا شك هناك العديد من الفلاسفة الذين لم تصلنا أسمائهم، كما ولا يعقل وجود هذه الشريحة من الفلاسفة دون مرافقة مجموعة من الشعراء والأدباء، وحيث وجود المراكز الثقافية المتقدمة، كجامعة نصيبين، كما يسميها (غيل مارلو تايلور) وكنديشابور، والمدائن، والرها؛ وأربيل وغيرها.
يقول (غيل مارلو تايلور) بروفيسور جامعة كاليفورنيا، في كتابة (الأطباء في كنديشابور) (كنديشابور تعني قرية شابور باللغة الكردية، بناها الملك شابور الأول، وزوجته ابنة الإمبراطور الروماني أورليان، وهي تقع ضمن منطقة قبائل اللور الكردية) ذاكراً في النسخة الإنكليزية ” كانت تدرس في جامعة كنديشابور الفلسفة؛ والطب؛ والفيزياء؛ والشعر؛ والبلاغة؛ والفلك، وكان المركز التعليمي يستقبل الطلاب الوافدين من اليونان للتعلم وتبادل المعلومات” وكنا قد ذكرنا سابقاً، كيف أن الشعراء الجاهليين العرب تعلموا سجع الشعر من شعراء دواوين الإمبراطورية الساسانية وقياصرة البيزنطيين وملوم الإسكندرية.
لا بد من التنقيب، والبحث عن الفلاسفة والشعراء الذين طمرت أسمائهم ونتاجهم ولم يتمكنوا من مواجهة موجات الطمس والنسيان ولربما التدمير، إن كان متعمدا أو غير متعمد. فهذا الضياع الجدلي، حتى الأن، وعدم بذل الجهد المطلوب من قبل الباحثين والكاتب المتخصصين في مجالات الأدب الكردي وتاريخه، وعدم العثور على ذاك التراث الحضاري، تراث ما قبل الإسلام، ستؤدي إلى استمرار منطق عدم وجود الأدباء والشعراء والفلاسفة الكرد أو الفرس أو السريان أو غيرهم في المنطقة قبل الإسلام، وهي إشكالية تاريخية تقحم فيها العديد من الرؤى والاحتمالات. الناقد والباحث (إبراهيم محمود) خير من درس هذه الظاهرة، وتعمق فيها، وقد تناولها في عدة دراسات، وأهمها كتابه (الكرد في مهب الريح) عام 1995م في الفصل الأول، والمعروض تحت عنوان (إشكالية التاريخ أم عدم اعتراف).
للإحاطة بهذه الإشكالية، وبطريقة أخرى، لا بد من العودة ثانية إلى ذكر كتاب (الفهرست) لأبن النديم (توفي في عام 438هـ998م) فعند التدقيق فيما وراء صفحات فهرسه، يمكن ملاحظة ظاهرة (إشكالية التاريخ) فابن النديم يأتي على ذكر أسماء معظم الشعراء والأدباء والفلاسفة الكرد والفرس والسريان واليونانيين وغيرهم، وفي فترات تمتد تاريخيا من عصره وحتى عصر سقراط، وهيرودوت، خارج الجغرافية التي احتلها العرب المسلمون، ولا يأتي على ذكر أسم أديب أو شاعر أو فيلسوف من الحضارات الميدية أو الساسانية أو الذين عاصروا غزوات القبائل العربية الإسلامية للمنطقة (ما عدى الأسماء التي أوردناها سابقاً) علماً أنه لا يترك شاعرا عربيا واحدا مهما صغرت مكانته وشح نتاجه، ومن جنوب الجزيرة العربية أو من اليمانيين، إلا ويدرجهم في كتابه، حتى أولئك الذين لم يكن يجدلوا الشعر باللغة القريشية. فعلها قبله المؤرخون المسلمون العرب أو غير العرب، أمثال (الطبري) و(البلاذري) وغيرهم.
يتبع…
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
9/12/2016م