الهاربُ من الهلاك المُعجّل إلى الهلاك المؤجّل

آزاد عنز 
صفيرٌ غاضبٌ يقترب و يشتد ، صفيرٌ لا يعلوه صفير و أزيزٌ منبثق من مركبة غاضبة تسبح في الجو انتقاماً من أبنيةٍ و أرصفةٍ و أدمغةٍ و رؤوس تعانق تلك الأدمغة ، لا مفرَّ من غرابٍ ثائرٍ يعلو البسيطة بضعة فراسخ و يحمل في جوفه الموت بمقاييس مختلفة لأجساد شاء الله لها الاختلاف في الأحجام ، كل جسد يقابله مقياسٌ محددٌ من الموت لا يخطئه و لا يرتد عنه ، كل جسد سيحظى بموتٍ يليق به أو لا يليق ، كل جسد سيهب نفسه للموت حال أن تُجهضَ السابحة في الجو حمولتها في سقوطٍ حر بحركة متسارعة لترتد على ترابك بعد أن تزهق روحه أيتها الأرض العائدة إلى شرق المتوسط ، لا مفرّ.
قطعان من الغربان الوطنية يحلقون في سمائك أيها الوطن الجريح و أطفال مبتسمون يلوحون لهم و هم لا يدركون أن الغراب لا يمازحهم و سيصطاد أرواحهم الواحدة تلو الأخرى على أديمك أيها الوطن المهمل المركون على هامش هذه الكرة المستديرة التي تسمى جغرافياً ( الأرض ) . نعق الغراب فسقط الموت من جوفه مطارداً الأرواح في الأزقة و الغرف ، أما الأجساد فقد تمزقت و تشتّت أعضاؤها و تناثرت كالغبار ، أيّ قبر سيحتضنك أيها الجسد الممزق أيها النصف الآدمي ؟ و لمن تؤول ملكية هذه الأعضاء المتناثرة ؟ أيّ انتهاك لحرمة الأموات ، في الحروب لا حرمة للأشياء لا للآدميّ ولا لغير الآدمي فالحرب لا تستثني أحداً حتى ضحكات الأثرياء و بؤس المتسولين ، لا مفرّ .
المركبة الآلية الحاقدة المحلّقة بجناحيها اخترقت حاجز الصوت و كأنها اخترقت الإنسانية برمتها لا شيء يلجمها ،لا شيء يخفف من انتقامها الصاخب إنها القيامة الناقصة التي لا وجهين لها لا تشمل الفردوس ، قيامةٌ جحيمية حلت عليك أيها البلد المُنهك و ما تبقى من أطفالك يجلسون القرفصاء في ظلامك الدامس لربما تعبرهم سحابة الموت بسلام أو تخطئهم صدفة ، أو ربما يحاولون الحفاظ على الجزء المتبقي من طفولتهم المهدورة المحتلة من قِبل بشرٍ لا يجيدون تفسير آلامهم و صيحاتهم المهدورة أيضاً ، لا مفرّ .
لكثرة الموت و قلة الحياة على ترابك أيها البلد من بقي من الأسرة فروا هاربين بما تبقى من حياتهم العاجزة فاجتازوا حدودك السياسية و الطبيعية حتى بلغوا البحر المضطرب الهائج الجائع الذي لا يشبع أبداً و إن ابتلع البلد بجملته ، بكل ما فيه من خلق الله ، أيّ جرم اقترفت أيها البلد و أيّ ضريبة ستدفع ؟حربٌ لا عقل فيها و لا صواب في بلدٍ مهزوم ، لا أحد منتصر كلهم مهزومون .
الطفل الهارب من أتون الحرب الدائرة بين خصائص المعلوم وخصائص المجهول بين العدم و الوجود ، الطفل الذي حُرِمَ من نومه و جمجمتهُ تعّج بأزيز المركبات و ضجيج المحركات الثقيلة و الخفيفة غادر أشلاء الوطن في يقينٍ منه أن الوطن ليس إلا حبراً يتقيأُ على ورقةٍ ممزقة أو حلماً يضاجع خياله الممزق .
خليلو الطرف المُذعِن الذي أبرم مع الله ميثاق الموت ككل كُرديٍّ يُبرم خلسةً في الخفاء ميثاقاً مُلزماً لإجهاض الكُردي و يقرُ جهاراً بأنه من يحصّنُ فروجَ الكرديات من انتهاك قضيب غير الكردي .
خليلو ذو الواو الملحقة كقضيته الملحقة أبداً ككلِ قضيةٍ تستعصي ولادتها قسراً ، استوطن المنفى بحثاً عن تأويلٍ لاسمه العربي بمفرداتٍ كردية ليهجرَ الوطنَ هارباً من جحيمٍ معجّل إلى جحيمٍ مؤجّل فمكث أرضاً ليست بكردية و شرب نخب البحر حتى افترش الزبد وسادةً أبدية .
كاتب كُردي سوري

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

أزاد خليل* في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، دخلت سوريا منعطفًا تاريخيًا بعد إسقاط نظام الأسد، إيذانًا ببدء مرحلة انتقالية تهدف إلى إعادة بناء الدولة على أسس جديدة، بعيدًا عن عقود من الاستبداد والحرب. هذه المرحلة تشكل نقطة تحول نحو تحقيق تطلعات السوريين للحرية والكرامة، بعد أربعة عشر عامًا من النضال والتضحيات. الفرص والتحديات أمام سوريا الجديدة مع إسقاط النظام، باتت…

يبدو أن هناك مرضاً متجذراً في المنظمات الكردية في روج آفاي كردستان، يتمثل في التبعية لمحاور كردستانية وإبراز المصالح الفردية على حساب الروح الجماعية والمؤسساتية. وللأسف، أصبح العمل عكس الشعارات والمواثيق والبرامج التي تعلنها هذه المنظمات ظاهرة واضحة، وكان آخرها ما يُسمى بـ”جبهة كردستان سوريا”. لقد كانت مطالبنا في هذه المرحلة واضحة وصريحة: توحيد الخطاب السياسي الكردي، والاتفاق على حقوق…

عصمت شاهين الدوسكي * هل الحرية أن تكون إنسانا أم شبيه إنسان ..؟ * هل ربحنا الحرية وخسرنا أنفسنا ..؟ * هل ربحنا الحرية وخسرنا أرض تنعم بالصحة والنعمة والأمان والسلام ..؟ * يا ترى من يقرأ ومن يسمع ومن يرى ومن يدون الحرية الإنسانية الحقيقية ..؟ تراكمت الحريات في العصر الحديث واغلب الناس يتمسك بها كملاذ لفكره وسلوكه وعمله…

إبراهيم اليوسف الثورة بين المفهوم والواقع لا يختلف اثنان على أن الثورة الحقيقية، في جوهرها، هي تعبير عن إرادة الشعوب الطامحة إلى التغيير الجذري في الأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تسلب حقوقها وحرياتها. إنها حركة تنبع من شعور عميق بالظلم والقهر، تهدف إلى تأسيس واقع أكثر عدلًا وإنصافًا. بهذا المعنى المثالي، كانت الثورة السورية في بداياتها-…