د. محمود عباس
حصر المخلوق البشري عقله، في علاقته مع الخالق، بمفاهيم مطلقة، مثلما فعلها ويفعلها اليوم الكردي في علاقاته الداخلية، وينظر إلى أعدائه كخالق لا يطال، ولمحدودية قدراته العملية والفكرية يتلهى بأبسط الصراعات، التي جعلها له خالقه صلاة، وهي الصراع الكردي مع البائس الكردي الأخر، وأقنعه بأن كل طعنة في الأخ يعدها انتصارا قوميا، والفرق هنا أن السؤال المحير في البعدين ما بين المشكوك والذي فيه بعض الكفر حسب الأديان، والمؤكد والذي لا ينتبه إليه أو تتناسها الأغلبية، ولربما لمصالح ذاتية، حزبية أو شخصية، وهي أن في الأولى لا تزال الأبعاد الميتافيزيقية تجول في مدارك الإنسان حول من خلق من؟ في الوقت الذي يكون فيه السؤال في المجال الكردي واضح وفاضح، فالخالق هو من خلق معظم أطراف الحركة الكردية وهو من يفرض الطاعة للخضوع له ولإملاءاته وتنفيذ أجنداته، أي الصلاة له في غير أوقاتها.
عندما بلغ الإنسان بوعيه مرحلة تمييز المادة عن الروح في ذاته، وبحث عن فكرة الإله خارج ماهيته، ولعوامل عديدة أخترع جدلية الخالق والمخلوق، خارج الإله الكوني، ونقب عن العلاقات اللاملموسة التي تربطه كمادة والقوة الخارقة (خالقه) كروح أو تلاحمهما، وقد أبدع الكردي وخاصة شريحة حزبية وثقافية تابعة لها، في هذا المجال البحثي، فلقن المجتمع بأن الأعداء ومستعمري كردستان يسكنون في حيز جغرافي وفكري خارج ماهيتهم، ولا قدرة لهم في المواجهة، فنحن وهم نندرج ضمن الجدلية الإلهية، والطاعة هي خير الطرق في البقاء حيا، تحت مظلة أنه السبيل الأوحد لبلوغ الغاية إلى أن تحين الفرصة، ويتناسون وينسون الشعب بأن الخالق أعدم كل الفرص قبل أن يخلق الأحزاب.
ولمحدودية العقل والتراكم المعرفي والتخلص من ثقل الأسئلة المحيرة، فضل الإنسان، في المجال الإلهي، النقل على التأويل، وحول أنصاف الألهة اللامادية في الديانات القديمة، إلى الواقع المادي، وخلق بعداً لا متناهيا بينهما، فبرزت على تناقضاتها وبعد مراحل عديدة وطويلة الأديان السماوية، وهي ما طبق في الواقع الكردي، وتتفاقم في جغرافية جنوب غربي كردستان، علما بأن الأطراف الأخرى ليسوا بأفضل، فقد فرضت السلطات الاستبدادية عن طريق مربعاتها الأمنية كالتي لا تزال مهيمنة في قامشلو طريقة التقبل والتطبيق دون النقاش أو حتى عرض الأسئلة التشكيكية، أو التفسيرية، وقد كانت المربعات الأمنية بعكس الإنسان الأولي قد وضعت سلطاتها في خانة أنصاف الألهة، أو الخالق، ونشرت التناقضات بين المجتمع الكردي ليفرز مكان الأديان الأحزاب الكردية الهزيلة المتعددة، وبأسماء متقاربة متشابهة، لئلا تخرج أفكارهم من الحيز الثقافي السياسي الذي حددها لهم الخالق أو جلاوزته الساكنين في المربعات الأمنية. وتلت الأديان، لعمق التناقضات وتكاثر السلبيات، المذاهب المختلفة المتصارعة، وخاصة في السماويات الثلاث، والتي على خلفيتها تم حصر المقاييس الفكرية، وتكفير معظم المقارنات العقلية. وهي ما نشاهدها اليوم ضمن الحركة الكردية، الأحزاب والمنظمات المنشطرة عن بعضها، بدونية المذاهب، وعلى سوية خلافاتهم، فيكفرون بعضهم بالتلاسن والتخوين السهل المنال، ويجندون لهذا شرائح من أبسط الكتاب في المواقع الاجتماعية، لعاملين، أولا، لأبعادهم عن التطاول على خالقهم، والثاني، إلهائهم في صلوات التخوين وطعن البعض، وهو بحد ذاته قتال كردي كردي بدون دماء، وكثيرا ما لا يقل آلام الطعن في الشرف والكرامة من الجرح والقتل.
وتبنى هذا المنطق ملهمو الأديان المعنية، ففرضوا، تحديداً، منطق النقل على العقل، أي عند الشك رجحوا الإيمان وحجموا التأويلات والحوار، فحاصروا بها جدلية الأسئلة المحيرة عن علاقة الخالق بمخلوقه، كعلاقة الرب بالمسيح. وهذه العلاقة مستفحلة في شرقنا، تقمصها السياسيون بكل حذافيرها، وتكالبت عليها الأحزاب الكردية، ألهمها لهم خالقهم، فصنع لهم أنصاف الألهة، لنقل وحيه إلى مجتمعهم، وبها أوسع هوة البعد بينه وبين المجتمع الكردي، وأضفى قدسية على قدسيته، ووضع عليها مخلوقاته وملائكته من الشريحة السياسية والثقافية، حراسا للحفاظ عليها، وهؤلاء هم من يحاصرون المجتمع بعد طرح الأسئلة المحيرة، كعلاقة الخالق والمربعات الأمنية بأنصاف الألهة الكردية الحزبية، وهكذا تبقى علاقة السلطات الاستبدادية الخالقة محيرة، ولغزاً على الشريحة المخلوقة، وخاصة مع الجوقة الإلهية، أنصاف الألهة الكردية، رؤساء الأحزاب، وليس كل رؤساء الأحزاب فبعضهم لم يرقى إلى تصنيف المخلوق المعتمد عليه بعد، والبعض لا يزال في خانة الاحتياط.
ظاهرة علاقة الرب بالمسيح نتجت كطفرة فكرية، استندت على مفاهيم أديان وثنية سابقة، وتطورت نتيجة تصاعد الصراعات الذهنية، المؤدية إلى توسيع دوامة الشك عند الإنسان، والحيرة حول علاقاته الروحية خارج ذاته، فتكاثرت الأسئلة وتنوعت التأويلات، وبرزت الاختلافات في الأجوبة، وكل جهة وضع خالقه ضمن أطر تلائم ثقافته وبصفات خاصة. فكانت الطفرة الكردية في سياقها، استخدم الخالق عمليات فبركة التاريخ الكردي، وفاقمت من الخلافات العشائرية، والدويلات الكردية ليخرج بهم وكأنهم كانوا في دوامة أبدية من الصراع، ليظهرهم في جهالة بالأمة والعلاقات القومية، وكشعب لا يعرف من الحياة سوى عداوة البعض، وفي الواقع كانت هذه هي ثقافة شعوب السلطات الاستعمارية الإقليمية، وتم جردها بأوامر من الخالق على التاريخ الكردي، فخرجت شعوبهم بتاريخ مجيد وأقحم الكردي في تاريخ فاضح بشع، وهكذا تكاثرت الأسئلة عند علماء التاريخ والعلاقات السياسية، حول ماهية الكرد، وثقافته، وفيما إذا كان على سوية تشكيل كيان سياسي اجتماعي اقتصادي متماسك أم لا؟ وتلهت هنا الأحزاب الكردية بما أطعمهم بها خالقهم من مفاهيم، وهي أن الكرد لا يزالون في العدم السياسي، وطاقاتهم ضحلة، ولا قدرة لهم في التنقيب والبحث أو بلوغ التأويلات المؤدية إلى ما نحن فيه، والأسباب التي أوصلت بالمجتمع الكردي إلى هذا الدرك. فكانت نتيجتها مثل نتيجة طفرة المسيح بالرب، ظهور أسباب جديدة مغايرة للصراعات البشرية، فتفاقمت الحروب الدينية، ومثلها الحروب العشائرية الكردية، واليوم بين الأحزاب الكردية، وعلى خلفية مؤتمر (مدينة أستانة) كالتي تدور اليوم بين جماعات التواصل الاجتماعي وبأوامر الخالق، لمخلوقاته الأخيار. فعلى خلفية الصراعات المذهبية، توسعت مساحات المجازر البشعة في التاريخ، وسيادة مفاهيم مطلقة شاذة انتشرت كالأوبئة بين المجتمعات البشرية، وهي ذاتها المنتشرة بين الكرد، كالمجازر الكلامية الجارية اليوم، ووباء الهجرة، والتخوين، والاعتقالات، وهيمنة القوي على الضعيف، وقتل الكلمة، والطعن في الشرف وغيرها.
فوجد البعض من المنورين والمثقفين الذين عارضوا هذه النقلة، المخلة بالقدرات الفكرية، من الخالق إلى سوية الإنسان (المسيح)، انتقاصا لقيمة الخالق، وتعظيما لمكانة المخلوق، وظهور الخطأ الأكبر في مسيرة الفكر البشري، أي مصاهرة الإنسان لخالقه، ولمرة واحدة، ودون إعادة، وكانت دونها مجريات الصلب وتقديسه، وفرض هذا المفهوم على البشرية بالنقل لا بالعقل. وتوجد بين الكرد هذه الشريحة الواعية والتنويرية حتى ولو كانت قدراتها ضعيفة، حالياً، مقابل قدرات الخالق وفروضه على المخلوق، إلا أنه يعي تماما الأساليب التي يستخدمها هذا الخالق المكروه، ومربعاته الأمنية، ويدرك بوضوح ما يصدر من جلاوزته الموجودين في قامشلو أو في الأماكن الأخرى من كردستان، ولا يستكينون في محاولات إيقاظ مجتمعه، ومخلوقاته الأخيار الكردية، وتنبيه أنصاف الألهة الوهمية، بأن ما تفرضه السلطة الاستبدادية الإقليمية (الخالق) ليست فروض إلهية، تخدم أجنداته، وتدمر الكرد، فهي أولا وأخيرا تعظيم لمكانته، وهيمنة لمربعاته الأمنية، وأساليب لهدر طاقات الكرد الخام الهائلة، والقابلة، لو سخرت، ليس فقط، على تغيير الشرق الأوسط، بل قيادتها، وإسقاط كل أنصاف الألهة. فقط نحتاج إلى قطع علاقات المصاهرة بين هذا الخالق المكروه وبين أنصاف ألهته، ومعه الشريحة المخلوقة من السياسيين والكتاب والمثقفين الملتهين بالصراعات الكردية الفيسبوكية.
يتبع…
الولايات المتحدة الأمريكية
MAMOKURDA@GMAIL.COM
5/11/2016م
نشرت في جريدة بينوسا نو العدد(56) الناطقة باسم الاتحاد العالم للكتاب والصحفيين الكرد في سوريا.