عن غرنيكا سوريا ويدها البيضاء

مصطفى إسماعيل

يمكننا تصنيف الثورة الشعبية السورية, وتأسيساً عليها الأزمة الراهنة للبلاد في إطار مرحلتين: مرحلة ما قبل اجتياح حماه, وما بعدها.

فمرحلة (الما قبل) لا تشبه مرحلة (الما بعد) إلا من ناحية استمرارية أوجه القمع والعنف المفرط للسلطة.

لكن مرحلة (الما بعد) تحمل في طياتها تحولات كانت متوقعة وإن جاءت متأخرة نقلت فيها الحالة السورية إلى حالة متقدمة.

فالأهوال التي شهدتها مدينة حماه أجبرت المجتمع الدولي الذي اكتفى بالتفرج في الآونة الأخيرة على مغادرة مقعد المتفرج والانخراط مجدداً في الشأن السوري وبشكل لافت, عبر التوصل إلى بيان الإدانة الأممي للقمع في سوريا, مضافاً إليه مواقف أمريكية أكثر وضوحاً من سابقاتها, فيما يتعلق بالتفكير بمرحلة (ما بعد الأسد), وأن سوريا ستكون ( أفضل من دون الأسد).
 كان لافتاً أن هذا التحول الموقفي الدولي من الوضع السوري جاء في الفاصل الزمني بين يومي جمعة, سمي الأول بـ (صمتكم يقتلنا) والثاني بـ (الله معنا), في إشارة إلى الغيبوبة الصغرى التي ارتضى بها المجتمع الدولي, ويأس السوريين من مساندة وشد أزر دولي لحراكهم إلى درجة عدم التعويل عليه ومن هنا المرارة الكامنة في التسميتين.

بدأت حماه إذن بتحريك الكثبان السياسية ومراكز القرار العالمي, لا يستغرب ذلك, فالمدينة السورية التي شهدت التظاهرات الأضخم والتعداد الأعظمي من المحتجين في ساحة العاصي معروفة في الأدبيات السياسية بأنها (معدة) سوريا, ويمكن تعريفها أيضاً بأنها (غرنيكا) سوريا, نظراً لأنها عاينت تاريخياً مشهدين سابقين من القمع الدموي للنظام البعثي,الأول كان في 1966 والثاني في 1982 وكان الأوج غير المسبوق لماكينة القمع التي حصدت عشرات الآلاف من الأرواح, إضافة إلى تدمير نصف الأبنية والدورالسكنية في المدينة,إلى جانب الآلاف من المفقودين منذ تلك الحقبة الزمنية السوداء في تاريخ سوريا الحديث, حيث كان قانون الطوارىء سيء الصيت وقانون 49 لعام 1980 سيدي الموقف والحالة السورية حينها.
حماه السورية تذكرنا ببعض المدن الشهيدة في العالم, التي صنعت تواريخ لبلدانها, بتقديمها الأمثولة في التضحية ومواجهة الطغيان والاستبداد وقوى الشر, حتى تحولت إلى ماركة وطنية بإمتياز ومثل أعلى وطني في تصديها لنداء الواجب, فإذا كانت درعا أوقدت شعلة الحرية لسوريا, فإن حماه تلقفت الشعلة ببروميثية راهنة وأوصلتها إلى الذروة الطبيعية, بكثافة المنتفضين والمحتجين, وتذكيرها إيانا بدور الساحة المحور في الضغط على الأنظمة, وتكرارها صنيع الانتفاضة المصرية ضد مبارك في إضفاء رمزية من نوع ما على ساحة العاصي, حيث تمازج نحيب النواعير مع نحيب الأمهات والأخوات والزوجات الثكالى وكل من فقد على درب الجلجلة السوري عزيزاً, ولأن البروميثية محظورة في بلاد الاحتكار الحصري للمفاهيم والحراك, كان الانهيال على حماه ضرباً وقتلاً وسحلاً واعتقالاً من أجل إعادة الشعلة المقدسة إلى مستودع أمانات السلطة, لتنحر في العفونة الهائلة والرطوبة الهائلة.

حماه السورية طبعة معادة من مدينة غرنيكا الإسبانية, التي حطمها الجنرال فرانكو مع الطائرات الألمانية في 1937,إبان الحرب الأهلية الإسبانية,لقطع دابر الجمهوريين الإسبان, وينبغي على التشكيليين السوريين والوثائقيين السوريين وغيرهم تخليد أسفارها الملحمية في مواجهة الطغيان السلطوي السوري, كما فعل التكعيبي بيكاسو مع غرنيكا وأهوال الحرب فيها, إذا ما علمنا وفي سياق المقارنة أن حماه شهدت في 1982 خلال العمليات العسكرية السورية ضد تنظيم الإخوان المسلمين مقتل قرابة 50 ألفاً من مجموع سكان المدينة الذي كان حينها بموجب التقديرات الرسمية نحو 350 ألفاً, وتحويل 60 % من الدور السكنية فيها إلى أنقاض وأطلال وخرائب, إلى درجة أن بعض المعارضين السوريين ومحللين خارج سوريا يستخدمون أحياناً بدلاً من عبارة ” الحل الأمني ” عبارة أخرى هي ” الحل الحموي ” في تذكير بأحداث الثمانينيات من القرن المنصرم التي عصفت بالمدينة, وشكلت تالياً ردعاً سلطوياً لأي تطلع مشروع من قبل المواطنين, وقد واتت ثقافة ” الحل الحموي ” التي زرعها الأسد الأب أكلها لعقود قبل الانتفاض الجماعي للسوريين منذ منتصف آذار المنصرم في مسعى لإعادة كرامتهم الوطنية المستلبة.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

بعد مرور إحدى وستِّين سنةً من استبداد نظام البعث والأسدَين: الأبِّ والابن، اجتمعت اليوم مجموعةٌ من المثقَّفين والنّشطاء وممثِّلي الفعاليات المدنيَّة الكرديَّة في مدينة «ڤوبرتال» الألمانيّة، لمناقشة واقع ومستقبل شعبنافي ظلِّ التغيُّرات السياسيّة الكُبرى التي تشهدها سوريا والمنطقة. لقد أكَّد الحاضرون أنَّ المرحلة الحاليَّة تتطلَّب توحيدالصّفوف وتعزيز العمل المشترك، بعيداً عن الخلافات الحزبية الضيِّقة. لقد توافق المجتمعون على ضرورة السّعي…

يونس حمد الراتب هو الحد الأدنى الذي يحصل عليه الموظف يتقاضاها من الدولة نظير واجباته وجهوده. لذلك مع الراتب الذي يتقاضاه هذا الشخص إلى حد ما، يمكنه إعالة أسرته وأطفاله لمدة شهر وسوف يستمر هذا العمل حتى وتأتي نهاية شهر آخر ويحصل على راتب آخر أيضًا وسوف تستمر. هذا الحق لكل عامل وموظف في أي دولة، بغض النظر عن…

صبري رسول دخل السّيد أحمد الشّرع مدينة دمشق في السّابع من ديتسمبر كرجلٍ سياسيّ قبل أن يكون عسكرياً بعد إن زحفت قواته من إدلب أقصى الشّمال الغربي إلى عاصمةٍ تُعَدّ من أكثر المدن تحصيناً في سوريا، حيث قوات حزب الله والحرس الثّوري الإيراني وقوات الحرس الجمهوري تحيط بها، وإحدى العواصم التي اختلف عليها العالم كلّه. سوريا التي حكمها وجهٌ واحد،…

صلاح بدرالدين قد تضيع اللحظة التاريخية ولكن لن يفوت الأوان دائما هناك لحظات تاريخية في حياة الشعوب خصوصا عندما يلتقي الذاتي والموضوعي في الزمن المحدد الذي قد لايطول الى الابد ، عن الأسبوعين الأخيرين مابعد التحرير اتحدث ، والفرصة السانحة لنا نحن الكرد ، لنعيد ترتيب بيتنا الخاص عبر المؤتمر الوطني الكردي السوري الجامع ، والمقصود نعيد…