آاه يا لفرحتهم في ليبيا فرحة ثمنها الدّم

صبري رسول

قبل اثنين وأربعين عاماً تسلّم مقاليد الحكم في ليبيا الرجلُ الأسمرُ الطويلُ ذات الكتف المزخرف بالطير والنجمتين، من خلال ما سميت بثورة الفاتح من أيلول، فسواء كانت تلك المرحلة ثورةً حقيقية، أم انقلاباً عسكرياً، استطاع العقيد معمّر القذافي إحكام السيطرة المطلقة على هذا البلد الغنيّ بالنفّط، واختزل كل القوى السياسية والاجتماعية الفاعلة في ليبيا في ثورته الأيلولية، واختزل (الثّورة) في شخصيته التي يشكّك الكثيرون بأنّها إلى الجنون أقرب منها إلى العقل، ومنذ لحظتها يبدّد موارد ليبيا، ويعتقل كلّ من يخالفه، ويحارب دولاً مجاورة، ويجابه هنا وهناك، حتى جعل من ليبيا صندوقاً ضيّقاً يشبه خارطتها الجغرافية، ويعلّبُ فيه الحياة، والفكر، والسياسة، والثقافة، والمشاعر، والدين، وكلّ ما يمتّ صلة بهذه العناصر.

القذافي استقدم الفنانين والخطاطين والنحاتين لكتابة أسس نظام الحكم في كتابه المبتذل(الكتاب الأخضر) ومن ثمّ يدفنه في الصحراء الليبية، كي تقوم البعثات الاستكشافية عام 4000م، أي بعد ألفي عام لكتشف هذا الكنز الثمين وتبني البشرية في ذاك الوقت حضارته على هدى أفكار هذا الرجل، أليس هذا مريضاً يحتاج إلى العلاج؟
          كان كلّ ذلك كافياً لإذكاء الثورة في نفوس النّاس (عليه وعلى فتحه الأيلولي)، وتعميق الاحتقان فيها، بعد هدر الكرامة، وفقدان الحرية، وإلغاء المواطن الليبي من المساهمة والعمل في الشأن العام، والانتظار ليوم الحسم بدون معرفة طبيعة هذا اليوم، ليشعله محمد البوعزيزي ثورةً في تونس، ويمتدّ لهيبها سريعاً ليلتهم الأنظمة السياسية في تونس ومصر وليبيا، وكان الأمس هو اليوم الحسم في طرابلس الغرب.
من أهم سمات مرحلة ما بعد الاستعمار الكلاسيكي، في النصف الثاني من القرن المنصرم، محاولة قادة الانقلابات العسكرية في تسمية انقلاباتهم بالثورات، دون أن يأتوا بجديد على الصعد الفكرية والسياسية، لأن الثورة تأتي بمفاهيم جديدة ومفيدة للشعب، وللوطن، لكن هؤلاء القادة وبدلاً من السير نحو الديمقراطية وبناء دولة القانون، واحترام حريات وحقوق الإنسان، أوقفوا عجلة التاريخ(سياسياً واقتصادياً وثقافياً) في يوم الاستيلاء على السلطة؛ فاستيلاؤهم على السلطة كان انقلاباً وتصفيةً للحسابات مع الخصوم والشريك المختلفين من داخل النّظام، ونهباً للمال العام.


آاه يا لفرحتكم أيها الليبيون، هل سيبدأ التّاريخ بكتابة صفحة جديدة من تاريخ ليبيا، تتّسم بالديمقراطية وحقوق الإنسان؟ وهل هذا هو الاستقلال الحقيقي؟ وهل بانتهاء نظام القذافي تكون الثورةُ العربية دشّنت في شمال إفريقية مرحلةً جديدة(تونس ، مصر، ليبيا)؟
أسئلة قد نجد إجابتها خلال هذا العام، أو في نهاية المرحلة الانتقالية.

لكن ما لفت انتباهي، وأثار تخوّفي التصريح الذي أدلى به رئيس المجلس الوطني الانتقالي الليبي مصفطى عبد الجليل: والذي أشار إلى احتمال لجوئه لتقديم استقالته إذا ما لجأ الثوار إلى الانتقام(دلالة التصريح إشارة إلى تبنّي ثقافة التسامح وقبول الآخر)ومن ثمّ التأكيد على(وجود متطرفين إسلاميين).

خلال الفترة الماضية، لم يُشر أحد من قادة الثوار إلى هذا الأمر،والإشارة الأخيرة تدلّ على رفض تسييس الدين، ورفضٌ لبناء إمارات إسلامية على غرار مفاهيم طالبانية، ودعوة صريحة على بناء دولة ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان وفق مواثيق دولية ذات صلة.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اعتبر الزعيم الكوردي رئيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني مسعود بارزاني، يوم الجمعة، أن الارضية باتت مهيأة لإجراء عملية سلام شامل في منطقة الشرق الأوسط للقضية الكوردية. جاء ذلك في كلمة ألقاها خلال انطلاق أعمال منتدى (السلام والأمن في الشرق الأوسط – MEPS 2024) في الجامعة الأمريكية في دهوك. وقال بارزاني، في كلمته إنه “في اقليم كوردستان، جرت الانتخابات رغم التوقعات التي…

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…