افتتاحية نشرة يكيتي *
يبدو أن أولى تجليات هذه الصياغة الجديدة تظهر من خلال توسيع السلطات العالمية في مقابل سلطات الدول داخلياً ومحلياً عبر إعادة بناء المؤسسات الدولية: التشريعية، القضائية، التنفيذية، وتمكينها من ممارسة سلطاتها فوق الدولية.
كان لإعادة الاعتبار إلى القضاء الدولي في العقدين الأخيرين عقب سقوط الاتحاد السوفيتي أثره البالغ في عودة الثقة إلى المستضعفين في الأرض الذين هدرت حقوقهم، وأزهقت أرواحهم واستبيحت أموالهم وأعراضهم من قبل وحوش بشرية استبدّت بالأوطان والشعوب، وأحالتها إلى جهنم وقودها الناس والحجارة، واستحالوا زبانية ينفثون فيها نيران حقدهم وجشعهم وكل ما أوتوا من وحشية، أحاطوا الناس بجهنمهم سادّين كل منفذ للخلاص، لم يبق أمام معذبي الأرض سوى الموت والخنوع.
صدر القرار 985 عن مجلس الأمن الدولي، القاضي بمنع تحليق الطيران العراقي شمال خط العرض 36، ومن ثم جعل كردستان العراق منطقة آمنة إثر المجازر والقبور الجماعية التي نفذها نظام صدّام البائد، والهجرة المليونية لشعب كردستان.
فقد ساهم هذا القرار في إعادة الاستقرار والسلام إلى ربوع كردستان العراق، وشكل سابقة دولية هامة وضعت العالم المتحضر امام مهمة إعادة النظر بالنظام العالمي الذي ساد إبان الحرب الباردة.
تتالت فيما بعد التدخلات الدولية في مناطق عديدة من العالم (رواندا، صربيا، دارفور…) مع إحالة مرتكبي الجرائم بحق البشرية إلى محاكم دولية (سلوبودان ميلوزوفيتش، كارادجيتش، ومحاكمة دكتاتور العراق صدام حسين امام محكمة الجنايات العراقية، وتنفيذ حكم الإعدام الذي صدر بحقه على الجرائم التي ارتكبها بحق الشعب العراقي).
وأخيراً وليس آخراً توجيه مدعي عام محكمة الجنايات الدولية الاتهام إلى دكتاتور السودان وقاتل شعب دارفور عمر حسن البشير، والمطالبة بمحاكمته مع أكثر من مئة من أركانات نظامه الوحشي الذين ارتكبوا جرائم بحق البشرية في دارفور، ولابد أنه وأزلامه سيجرّون صاغرين للمثول أمام المحكمة الجنائية رغم رفضه، وعدم “اعترافه” بمحكمة الجنايات الدولية (هو لا يعترف بمحاكمه وقوانينه، فكل دكتاتور يظن نفسه فوق أي قانون)، ورغم تهافت العرب إلى مؤتمر طارئ لوزراء الخارجية، وتعهدهم بالبحث وبكل السبل، عن مخرج للدكتاتور، إنه سيمثل رغم أنفه، ولو بعد حين، على غرار أسلافه صدام وميلوزوفيتش وغيرهما.
إذا كان حكام المنطقة العربية الغارقون في الاستبداد يأملون بدفاعهم عن الطغاة من أمثال البشير وغيره من المستبدين، إفشال الجهود العالمية الطامحة لحماية الإنسان وحقوقه، ومن ثم إفشال المؤسسات القضائية الدولية (محكمة الجنايات نموذجاً) أملاً في الإبقاء على النظام العالمي القديم الذي مكّنهم من شعوبهم، وثبّتهم على كراسيهم، وأدامهم في حكمهم، عليهم أن يعودوا للتاريخ ليتعلموا أن كل الطغاة (من الحجاج إلى صدام ومن هتلر وستالين إلى سلوبودان) كان مآلهم إلى مزبلة التاريخ.
إذا كان الحكام يتهافتون للدفاع عن الدكتاتور خوفاً من أن يلقوا المصير ذاته، فإن ما يحز في القلب هو سوق تلك الجموع البشرية إلى الشوارع كالقطعان لتهتف بحياة الدكتاتور وتكيل الشتائم لمن استنفر من أجلهم ضد مستعبديهم وسالبي حرياتهم وممتهني كرامتهم؛ تلك الجموع التي باتت بسبب القهر المزمن عاجزة عن إدراك حقوقها الطبيعية، غير قادرة على التفريق بين حقها في السيادة وبين السيادة الخاصة بالاستبداد الذي أعلن نفسه بديلاً عن الشعب والوطن.
لم بعد العالم قادراً على الاستمرار في ظل الخلل الكبير في علاقة الحكام بالمحكومين، لم يعد قادراً على التعايش مع نظم للحكم أحالت المجتمعات البشرية إلى قطعان من الرعية، والأوطان إلى مسالخ، كما إن انعدام التوازن لم يعد يحقق مصالح الكبار أيضاً في عالم تداخلت فيه المصالح والأوطان والشعوب.
فلابد لهذا العالم من أن يعيد ترتيب ذاته، وينتظم من جديد بطريقة تعيد إليه توازنه، وتحفظ بقاءه وأنسيته.
——–
* نشرة شهرية تصدرها اللجنة المركزية لحزب يكيتي الكردي في سوريا – العدد 159 تموز 2008 م