نعود قليلا إلى ستينات القرن الماضي لنطلع على سلوك واحدٍ من أكثر الأنظمة تلاعبا وتحايلا وتجاوزا واختراقا وإهمالا للثوابت العامة والدساتير المؤقتة منها والدائمة والأكثر تناقضا وباطنية وازدواجية في تعاطيه مع الكثير من الأمور، ولنطلع بداية على حقيقة من الحقائق المثيرة عن حزب ما برح يزعم ويدعي وبإصرار وإلحاح بمقاتلة ومقاومة ومقارعة ومجاهدة الأمريكان والامبرياليين والانكلو سكسونيين في الدنيا والآخرة، طبعا تحت راية القائد المنصور بالله الذي مجرد اسمه هز أمريكا!؟
ففي اعتراف له قال علي صالح السعدي وهو من كبار مسؤولي حزب البعث العربي الاشتراكي الذي حكم العراق قرابة أربعين عاما:
((إننا جئنا إلى الحكم بقطار أمريكي..))
في أعقاب انقلاب مثير للجدل والشبهات بعلاقاته بأوساط أمريكية وخليجية وربما إسرائيلية أيضا إثر الانقلاب على حكم الزعيم عبدا لكريم قاسم في شباط عام 1963 م.
التي يجمع معظم المؤرخين السياسيين بأنها بداية التحول إلى حكم القرية والبداوة السياسية في التاريخ السياسي العراقي المعاصر.
لقد كانت هناك توجهات جدية للتحول إلى دولة متحضرة بعد التغيير الكبير الذي حصل في تموز 1958 م والانتقال إلى دولة المؤسسات والدستور الدائم بعيدا عن الشعارات والمزايدات، ولكن سرعان ما جاء القطار الأميركي كما يقول السعدي حاملا رفاق العقيدة والسلاح والكواليس والانكفاء إلى الجاهليات البعثوية والتهام الإلهة والثوابت، والتي أنتجت هذا العراق بعد أربعين عاما من حكمها؟
حقيقة بدأت الأمور تأخذ منحاً مغايرا تماما لما كانت عليه الأمور في العراق قياسا حتى بالفترة الملكية، فقد بدأ البعثيون ينقلون عقلية القرية والقبيلة بشكل مريب إلى المدينة التي كانوا يعانون من عقد كثيرة فيها، بل أنهم نقلوا كل عقد الجاهلية في التعاطي مع المدينة ابتداءً من منظومة البداوة في التعامل مع مفردات الحضر والحضارة وصولا إلى الكفر بالثوابت التي يحددوها ويعلنوها كدساتيرهم المؤقتة والدائمة كما كان يفعل الجاهليون الأوائل في التهام آلهتهم حينما يمسهم جوع أو برد !؟.
وليس أدل على ذلك إلا تصريحات رئيس النظام السابق صدام حسين وهو يتحدث عن القوانين والدساتير قائلا: (ليس لدينا قانون أو دستور منزل من السماء، نحن نعمل القانون في الليل وإذا ما رأيناه لا يصلح قمنا بإلغائه صباح اليوم التالي)!!؟ وطبعا معروف لدى الجميع عملية تشريع القوانين وتعديلاتها وإلغائها وما هي الآلية التي كان يستخدمها هو ومجلس قيادة الثورة المنحل طيلة ما يقرب من أربعين عاما.
ولكي لا نسرف في تعداد شواهد التاريخ وسلسلة الحلقات التي تطور منها هؤلاء الذين أوصلوا عراق الغنى والثراء وبلد الماء والطاقة والمطر وارض النبات والشجر إلى أفقر البلدان وأكثرها تقهقرا وتخلفا وجدبا، فإننا سنأتي إلى حقبة من أهم حقب تطوره، وفرصة من أندر فرص تحرره وانطلاقه إلى الأمام لتعويض ما فاته عبر عشرات السنين.
ففي سابقة لا مثيل لها بين مجموعة دول الجامعة العربية يتم استفتاء الناس حقيقة وليس تمثيلا (على عادة معظم بلدان هذه المجموعة المولعة بالعدد تسعة ومضاعفاته)، على دستور لبلدهم منذ تأسيسه، كان هذا في العراق وفي مطلع 2005 م، حيث صوت أكثر من ثمانين بالمائة من الناخبين لصالح دستورهم الدائم الذي وضعت مسوداته مجموعة من كبار الخبراء والقانونيين والمختصين بالدساتير ولجنة من كافة الفعاليات السياسية والمكونات القومية والعرقية والدينية والمذهبية بما يدفع إلى الأمام نموذجا متقدما لدولة تنهض من بين الركام والتخلف والشمولية وإلغاء الآخرين.
وخلال أكثر من ثلاث سنوات تحاول قوى كثيرة معظمها امتداد لثقافة النظام السابق أو قريبة منه (رضاعة أو نسبا !) ممن قاطعت التصويت على الدستور بل وقاطعت الانتخابات النيابية وانتخابات مجالس المحافظات ورفضت الدخول إلى العملية السياسية من أبوابها الكبيرة مختارة الشبابيك التي فتحتها لها السفارة الأمريكية كما حدثنا التاريخ عن ذلك القطار الذي جاء بهم ذات يوم إلى محطة الحكم في بغداد.
ومنذ دخولها من شبابيك العملية السياسية سواء في مجلس النواب أو لجنة كتابة الدستور أو مفاصل الحكومة ومؤسساتها العسكرية سواء في الجيش أو الشرطة وهي على تناقض حاد مع كل ثوابت العراق الجديد وتشريعاته وتوجهاته وهي التي تعيق التقدم ولو أنملة واحدة باتجاه تحقيق العراق الجديد، بل وتعمل ليل نهار لإعادة تصنيع الماضي بإطارات محدثة وأساليب أكثر تحايلا ومكرا في إشاعة اليأس والإحباط وشراء الذمم كما كان يفعل النظام السابق وبنفس الأدوات والأساليب التحريضية باستخدام الغرائز والأحقاد والتشنجات هنا وهناك.
وما يحدث منذ قانون إدارة الدولة في تنفيذ متطلبات حل المشكلة الكوردية في العراق التي كانت واحدة من أهم أسباب تخلف العراق وسقوط بغداد المشين في عام 2003 م ومحاولاتهم الالتفاف على الدستور من خلال آلية التعديلات والمساس بالثوابت والتشكيك في إمكانية بناء عراق جديد، تارة بتصريحاتهم وتثقيفهم بأن الشيعة ليسوا رجال دولة أو حكم ومشكوك في ولائهم الوطني والقومي على خلفية ثقافة البعث كونهم شعوبيون صفويون ورافضة مشركون يقام عليهم الحد(!).
وتارة بأن الكورد انفصاليون لا يحبون العراق ولا يريدون العمل من خلاله وإنهم يستحوذون على العراق وثرواته ويعملون من اجل دولتهم القادمة (!)
وما حصل في الثاني والعشرين من تموز 2008 م يؤكد ما نذهب إليه بعودة الكثير من الماضي وثقافته ونظام تفكيره إلى مراكز القرار على قطار أو طائرات شبحية(!)، وإلا ماذا بإمكان المراقب أن يفسر تداعي أعضاء هذه المجاميع في مجلس النواب إلى بغداد قبل تمرير القانون الأخير لانتخابات مجالس المحافظات وموضوعة كركوك ربما بساعات قادمين على طائرات خاصة ومستأجرة لهذا الغرض (!) من دبي وعمان والقاهرة وغيرها؟
وفي اجتماعات مغلقة ومداولات حكمت الكثير منها ثقافة النظام الشوفيني السابق بل والتعاطي مع نتائج جرائمه في التعريب والتشويه الديموغرافي للمدن والبلدات والجينوسايد على أنها مكتسبات وطنية وواقع حال علينا الاعتراف بها وقبولها بل والاستمرار بتطويرها من خلال تلك الشعارات البائسة في عراقية كركوك وما يسمونه بتوسيع رقعة الإقليم الكوردي وكأن هذا الإقليم جزء من دولة أخرى وليس أرضا عراقية؟
إن ما يحدث الآن من حملات مريبة وعدائية في الإعلام سواء المحلي أي العراقي أو العربي من خلال مجموعات الكتاب الموظفين لدى إدارة البعث ومنظوماته المنتشرة هنا وهناك، يدلل على المنبع الواحد لكل هذه الحملات التي تستخدم ذات العقلية والسلوك في توصيفها للكورد وحقوقهم القومية ونفس الخطاب البعثوي والشوفيني الذي استخدم طيلة اربعة عقود، وبالتأكيد فان ماكينة الإعلام البعثي وكوبوناته النفطية ما تزال تعمل من خلال مجموعة الفضائيات المنطلقة من القاهرة وعمان ودبي وغيرها، ومنظومة الأموال التي تمت سرقتها من قبل موظفي حزب البعث في الداخل والخارج من الشركات والمنظمات التي أسسها النظام السابق للعمل في الخارج.
وبمقارنة بسيطة بين كل ما يكتب الآن أو يتم فعله في قضية كوردستان وموضوعة الفيدرالية وحرية الرأي وحقوق الإنسان وبين منظومة أفكار النظام السابق وأسلوب تعاطيه مع هذه القضايا يدرك تماما من يعمل على إعاقة تطبيق الدستور بل وإلغائه إن تمكن من ذلك.
إن الكورد في الموصل وكركوك وديالى وبغداد وغيرها من المدن والبلدات حقيقة أراد النظام السابق إلغائها أو تشويهها من خلال جرائمه في التعريب والترحيل والأنفال كما حصل في تهجير وإبادة كورد بغداد وأطرافها وما زال يحصل حتى الآن في التباطئ والتسويف مع قضية الكورد الفيلية، ومع ما حصل في تطهير الموصل من الكورد وما يحصل منذ خمس سنوات في إبادة الكورد في المدينة بل والدفاع عن ذلك من قبل مجموعة من اعضاء مجلس النواب عن الموصل(!) حينما يقررون إعدام الكورد في المدينة بادعائهم إن هذه القومية لا تتجاوز 2 % من سكان الموصل؟
وكذا الحال مع كركوك وسنجار وزمار وخانقين والشيخان ومندلي ومخمور وغيرها من القرى والبلدات التي دمرها النظام السابق بسياساته العنصرية والتي ما زال البعض يتشبث بها بل ويعمل ليل نهار من اجل الحفاظ على مكتسبات البعث فيها.