إبراهيم اليوسف
ليس لي أي مزاج لاستخدام أية مفردة تركية في لغتي اليومية، لاسيما منذ موقف نظام تركيا الدموي من استقلال كردستان، والتحريض على احتلال كركوك، بل وإقليم كردستان كله، والإقدام على احتلال عفرين وكري سبي وسري كانيي في كردستان سوريا إلخ، وإن كانت التركية اللغة التي تعلمت بعضها- قبل أن أنساها- إلى جانب: الكردية والعربية لغتي قريتي”تل أفندي” من خلال سميي و توأمي في بعض الحليب: إبراهيم حمزة المللي- من بكارة الجبل، رحمه الله، والذي لم يكن يفصل بين بيتينا إلا مجرد جدار وطيء. تعلمت التركية بعد أن تجاوزت في بوابة قامشلي- نصيبين، الحدودية. كنا أبي وأمي، وأنا و ثلاث أخوة وأخت، ذاهبين إلى كردستان تركيا حيث بيوت خؤولتنا وعمومتنا الذين لهم مصائف ومرابع ومشات: في الجبل، وفي السهل الذي أنصفته حدود الدولتين الطارئتين البالعتين لخريطة كردستان، في ما فوق الخط الحديدي وما تحته: سر خت وبنخت!
في المحطة، كان موظفو الجمارك يدققون- أول جواز سفر تحصل عليه الأسرة- وسنزور معاً، أبي وأمي ونحن، كما حال طائرين جبليين عششا في أحد المرابع وعادا بفراخهما. الفراخ- نحن- الذين سنزور بيت خؤولتي جدتي- الوحيدة التي رأيناها من الجدات والجدود الأربع- وهم جميعاً من عمومتنا
فاجأت خالي وأنا أصوغ بعض العبارات بالتركية
سألني جميعهم: من أين تعلمتها؟ فقلت من: الحدود
حقاً، تعلمت” حجر أساسها” من الحدود، وإن كان أبي لايزال يقرأ ويكتب بالتركية التي تعلمها، عندما ترك الوطن، وغادر إلى تركيا، يتابع شؤون أرض جده التي باتت في- يد- بعض الجيران، وقد نمَّ عليه بعضهم، ليربك ملف القضية في المحكمة التي لاتزال متواصلة منذ خمسينيات القرن الماضي، وإلى الآن، وكلما تمت محاولة-طمس الملف- جددها الأهل.
رحت، خلال شهر ونيف، من رحلتنا التاريخية الاولى في حياة العائلة، أنمي قاموسي التركي- عربي- كردي، من خلال أسئلتي للكبار، في قرية “بن أردكا” النائمة على الحدود كما قرية جدي شيخ يوسف” جمرلوك” التي يكاد رأسها يتوسد سفح الجبل بينما تمد أرجلها في أعماق السهل، وقد تركها ابنه الوريث: إبراهيم شيخ يوسف. جدي، الذي أطلق الشيخ علاء الدين الخزنوي اسمه عليّ، وكان رغبة الأسرة. رغبة أمي وأبي. أمي أكثر، لأنه لو سماني الشيخ باسم آخر لثبته أبي، دون رغبة أمي!
لنعد إلى عالم الكورشمة الذي أبهرني، منذ الطفولة، ولاسيما بعد انتقال بيتنا من القرية التي غادرها سكانها نحو المدينة، فكانت وجهة ابي وأمي إلى قامشلي، حيث أقرباؤنا هناك اكثر. كانت آلاف الاسرة تتجمع في كل طرف حدودي من جهة من هي تركيا اليوم، ومن جهة من هي سوريا اليوم، في انتظار أن يسمح لهم بالعبور إلى الاتجاه الآخر، وفي كل مرة كان يتمُّ السماح لقلة بالذهاب إلى هذا الطرف أو ذاك، ليتم منع الأكثرين، بل لربما يتم منع جميعهم، والسماح في مرات قليلة – وأعني المرات التي كنت بحكم فضولي أتابع المشهد القريب من بيتي- ذات مرة قال أبي لأمي:
ليتنا رحنا في الكورشمة لنرى أهلنا!
كان عابر الحدود” المكرشم”، يعفى من الحصول على جواز السفر، المكلف – مالياً- بحسب تلك الأيام، قياساً إلى فقر أبناء مجتمع لا موظفون فيه، لا إعانات، ولا أملاك للأغلبية، بل إن من لديهم أملاك قليلة فهي لم تكن لتكفي تأمين خبز هؤلاء و مصاريفهم البسيطة، و ما يلزم لمتابعة تعليم أبنائهم
ما الكورشمة يا أبتي….!
سألته
الكورشمة، يابني: السماح للأهل ممن هم ” فوق الخط وتحت الخط” باللقاء ببعضهم بعضاً وتبادل الزيارات.
أتذكر، كان مسموحاً لمن تشملهم الكورشمه بقضاء عطلة العيد ساعات، يتبادلون فيها الهدايا، وقد تصل يومين أو ثلاثة ولربما أربعة، في تدبير خاص، والويل لمن يزيد عن ذلك، حيث يترقبه السجن، في هذا الطرف أو ذاك!
مفردة “الكورشمة” بدأت تفرض ذاتها علي، منذ بدايات الحجر الصحي، وها نحن ندخل شهرنا الثاني، إذ إن زيارات الأبناء والأحفاد كانت في الأسبوع مرتين، ماعدا زيارات الحاجة، يهتفون إلينا: نحن آتون، نتبادل التحيات من وراء المسافات الفاصلة بيننا، يأتوننا بالورد، أو اللوازم، من مواد تموينية وغذائية وخضار وأدوية، وفيتامينات بدأنا نلجأ إليها في مواجهة – كوفيد19- ثم تنتهي الزيارة، يكملون “مشوارهم” مشياً نحو الحديقة، ومعهم أبناؤهم، إلى جانب بعض الجيران الذين يخرجون من حجرهم مع جرائهم وكلابهم للترويح، بعد أن غدت الشوارع قفراً خالية إلا من سيارات واقفة، ومغامرين قلة يشبون عن طوق الحجر الصحي.
يوم أمس، تأخرت الزيارة، فقالت أمهم: يذكرني حالنا بالسجناء الذين ينتظرون أهلهم كي يزوروهم ويلتقوهم من وراء القضبان
قلت لها:
أما أنا فأشبه حالنا بحال أهلنا في “بن خت” و “سرخت” الذين كانت ثمة حدود من نار بين الطرفين، وكثيراً ماكانوا ينتظرون “الكورشمة” ليلتقوا أهلهم لساعات، من دون جدوى!
معتقل كورونا الدَّولي، لا مهرب من قبضة سجانيه اللامرئيين، وعسسه، وأشباحه، وكائناته: إنهم في كل مكان. وحدها البيوت محطات استسلام ورفع للرايات البيضاء، واعتراف بسلطانه، وهو ما يجعل الخارج عن إهاب البيت في عدة حرب المواجهة كاملة: الخوف والحذر والكمامة والقفازات وعبوات التعقيم والملابس التي نتبرأ منها، ما إن خرجنا من البيت وعدنا إليه، كي تخضع لإجراءات البراءة الناقصة- دائماً- من الخطر الكوروني!
لقد جعلتنا أيام الحجر الصحي، وفق فرمانات إمبراطورية كورونية، ندرك أهمية حريتنا، ومعاناة سجناء الرأي لدى دكتاتوريات العالم، وها هو الإمبراطور كورونا يفجر طاقات سجناء إيران لمواجهة سجانيهم، يكسرون جدران سجونهم، ويلوذون بالفرار، وإن كانت ثمة تراجيديا- غير متوقعة- تنتظر بعضهم، بعد وشوك الخلاص- كما حال- مصطفى سليمي- الذي يقع في فخ آخر، سنفضح فكيه في آن واحد!