عن المجتمعات الحية: ماذا يعني أن يزور رئيسُ دولة طبيباً ؟ «عن زيارة الرئيس الفرنسي ماكرون من باريس إلى الطبيب راؤول في مرسيليا»

إبراهيم محمود 
أن يقطع الرئيس الفرنسي ماكرون المسافة الفاصلة بين باريس العاصمة ومرسيليا والتي تقدَّر بـ ” 772 كم ” جواً بزمن ” ساعة وربع ” ليلتقي مدير المعهد الاستشفائي الجامعي في مرسيليا، الدكتور ديديه راؤول، والذي أثبت فعالية العقار المركَّب من هيدروكسي كلوروكين من “هيدروكسي كلوروكين” و”أزيثروميسين”، لمعالجة المصابين بفيروس كورونا، فقط ليراه في مخبره، فقط ليصغي إليه، يضع المهتم بموضوع كهذا في نطاق طبيعة المجتمعات الحية، ومكانة المبدعين والمخترعين والمجتهدين في حقول الحياة كافة فيها، فهو لم يستدعيه إلى قصر الإليزيه، كما نشهد تصرفاً كهذا في الكثير من المجتمعات التي يتزعمها حكام، يشدّونها إلى سلطتهم عامة وخاصة، ومهما كانت مراتبهم وعبقرياتهم .
زيارة الرئيس الفرنسي جواً، إلى طبيب، وفي مدينة بعيداً نسبياً عن باريس” كان ذلك يوم الخميس 9 نيسان 2020 “، تقول الكثير من الأمور التي حفّزتني على النظر فيها، وإضاءتها هنا، وفي واجهتها: إعطاء المكانة للذين يقدّمون خدمات ليس لمجتمعهم، ليس لأمتهم، ليس لثقافتهم وحدها فحسب، وإنما للإنسانية جمعاء، ومن خلال هذا التقدير، تبقى أي زعامة، مهما كان موقعها في نطاقها المحدود، وهو اعتراف من نوع آخر، وأعني به أن العلماء والمثقفين المتنورين وذوي الإبداع الفعلي هم الذين يمثّلون رموز المجتمع، وهم الذين يشكّلون الضمير الحي له، ويُبقون روح الحياة نابضة متجددة في جسده .
ربما ينبري أحدهم، ليقول: هذا الطبيب يستحق زيارة كهذه، لأنه سينقذ الملايين، وسيفيد بلاده اقتصادياً، ويرفع من سمعتها بين الدول الأخرى…ذلك صحيح تماماً. سوى أن السؤال الذي يطرح نفسه: هل نشهد شيئاً كهذا، وبمثل هذه العلاقة في المجتمعات التي ننتمي إليها ” والكرد الذين يحتاجون إلى الكثير الكثير ليشار إليهم أنهم يعيشون في مجتمع فعلي، وبمؤسسات مدنية فعلية، ضمناً طبعاً “، وفي المجتمعات المجاورة، والتي تعتبر فكرة الإبداع بأكثر من معنى ” بدعة “، وأن الذي يمتلك طاقة لافتة: علمية، بحقولها كافة، لا يجد الحد الأدنى من الاهتمام، وأن مسئولاً سياسياً، ورسمياً، لا يتونى عن استدعاء أي من هؤلاء الذين لديهم طاقات وإمكانات وخدمات مقدَّمة في حقول العلم والثقافة،وهو في مكتبه، ليشرح له ما قام به، وحتى من كان في أعلى منصب سياسي، لا يتنازل ليقوم بما قام به رئيس دولة كبرى، هو السيد ماكرون، حتى لو كان هذا المبدع، أو الذي يمتلك قدرات العالم، على مرمى حجر من مكتبه ” السيادي “.
ذلك عمْر تعدى الستة عقود، عشتُه ورأيتُ فيه الكثير من المواجع، والكثير من اللامبالاة تجاه حالات كهذه ” حتى وأنا في إقليم كردستان منذ ثماني سنوات “، لا بل والسعي ما أمكن إلى تجاهلها، وفي أحسن الأحوال القيام بتكريم معين، وداخل هذا المكتب الرسمي أو ذاك، وهذا يعطينا فكرة موجزة وعميقة الدلالة، عن أننا نحتاج إلى الكثير لنرتقي إلى مستوى المجتمعات الحية تلك، أو نكون على تخومها، وأن كل تسويغ لتخلف معين، أو تأخر معين، أو أزمة معينة معينة، أو مشكل معين ، له صلة بالمجتمع، مهما كان مجاله، لا يعدو أن يكون شاهد عيان، على أن هذا المجتمع محكوم بأفراد لم يضعوا في حسبانهم، يوماً، الانتقال بمجتمعهم إلى مصاف المجتمعات الحية، لسبب بسيط، وهو أنهم بعيدون بأكثر من معنى عن عالم المجتمعات تلك، ولهذا نعيش هنا وهناك نهْب فيروسات من مقامات مرئية ولامرئية، إلى أجل غير مسمى …

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

خالد حسو إن مسيرة الشعب الكوردي هي مسيرة نضال طويلة ومستمرة، لم تتوقف يومًا رغم الظروف الصعبة والتحديات المتراكمة، لأنها تنبع من إرادة راسخة ووعي عميق بحقوق مشروعة طال السعي إليها. ولا يمكن لهذه المسيرة أن تبلغ غايتها إلا بتحقيق الحرية الكاملة وترسيخ مبادئ العدالة والمساواة بين جميع أفراد المجتمع، بعيدًا عن أي شكل من أشكال التمييز القومي أو الديني…

مسلم شيخ حسن – كوباني يصادف الثامن من كانون الأول لحظة فارقة في التاريخ السوري الحديث. ففي مثل هذا اليوم قبل اثني عشر شهرًا انهار حكم عائلة الأسد بعد أربعة وخمسين عاماً من الدكتاتورية التي أثقلت كاهل البلاد ودفعت الشعب السوري إلى عقود من القمع والحرمان وانتهاك الحقوق الأساسية. كان سقوط النظام حدثاً انتظره السوريون لعقود إذ تحولت سوريا…

زينه عبدي ما يقارب عاماً كاملاً على سقوط النظام، لاتزال سوريا، في ظل مرحلتها الانتقالية الجديدة، تعيش واحدة من أشد المراحل السياسية تعقيداً. فالمشهد الحالي مضطرب بين مساع إعادة بناء سوريا الجديدة كدولة حقيقية من جهة والفراغ المرافق للسلطة الانتقالية من جهة أخرى، في حين، وبذات الوقت، تتصارع بعض القوى المحلية والإقليمية والدولية للمشاركة في تخطيط ورسم ملامح المرحلة المقبلة…

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…