ماهين شيخاني
منذ أسبوعين تتعرّض مدينة الدرباسية وريفها إلى هجمة شرسة من الطابور الخامس ببثّ الذعر والهلع بين الناس، وجعلت هذه المدينة الهادئة، والتي تحتضن الكثير من العائلات النازحة من أغلب المناطق السورية، وبالأخصّ في الفترة الأخيرة لاحتلال مدينة رأس العين (سري كانيه) وقراها، عرضة لسيل جارف من الإشاعات بالهجوم التركي، حتى قام بعض الناس بترك بيوتهم والنزوح إلى الحسكة والقامشلي.
ونظراً للظروف التي مرّت بها المنطقة منذ سنة تقريباً، خلال الهجمة التركية مع الفصائل الموالية لها وشراستها والقتل والتشريد، التي ما زالت عالقة بأذهان الناس، فإنّ الإشاعة انتشرت ووجدت تربة خصبة لتنمو، وتتضاعف أثناء دحرجتها، وتنقلها من شخص لآخر، مثل كرة الثلج. فهي أكثر أسلحة الحرب النفسية فتكاً وبشاعة، وكما نعلم فالإشاعة هي خبر مدسوس، كليـاً أو جزئيــاً، وينتقــل شفهيـاً أو عبر وسائل الإعلام دون أن يرافقـه أي دليـل أو برهان ويقصد به بثّ الرعب وتحطيم المعنويات.
إنّ من يبثّ الإشاعة، يعلم مدى فعاليتها في سرعة الانتشار، وقدرتها الكبيرة على التأثير في عقول الناس وعواطفهم والعبث بها. وتشكيل الرأي العام وصياغته، هي ما جعلها من أهم الوسائل التي تعتمدها وتستعملها الحرب النفسية، في تفكيك جبهات الخصوم وزرع البلبلة والشك والقلق والاضطراب في صفوفها، وكسر الروح المعنوية، وإلحاق الهزائم النفسية الكاسحة والأضرار الجسيمة بها، وبالتالي تحقيق الأهداف المتوخاة.
إنّ هذه القدرة التدميرية الهائلة للإشاعة، هي ما جعلها “تشكل، كما يقول عبد المجيد السفياني، جزءاً من التكتيك الحربي العام، والقائم على التشكيك وتخريب المعنويات، وزعزعة تماسك الصف، والتمهيد للهزائم الميدانية بهزائم نفسية.. إنّها كآلة إعلامية، سواء في الحروب القديمة أو المعاصرة، هي ثابت بنيوي في منطق “الحرب الخدعة” وفي التكتيك الحربي العام.
فالهزيمة، كما يشرح محمد سعيد رسلان: ((هي في الحقيقة حالة عقلية ونفسية، والمعركة التي يُهزم فيها الإنسان، هي المعركة التي يعترف لنفسه فيها بالهزيمة، وبذلك يتحول إصراره على المقاومة إلى الخضوع واليأس والتسليم بالهزيمة، من خلال إطلاق الإشاعة، التي تقضي على روحه المعنوية، حتى يصل لدرجة يعتقد أن الحرب أنكى من الهزيمة))، وإنّ هذه القدرة الهائلة للإشاعة على التأثير في النفوس، هي التي قادت الأمير شكيب أرسلان إلى الخلاصة التالية: ((إذا أردْتَ أن تقتل إنساناً فلا تُطلق عليه رصاصة، بل أطلِقْ عليه إشاعة)).
Timothly Thomas
ويقول تيموثلي توماس: ((إنّ الإشاعة من أقبح وأشرس وأفتك أدوات وأسلحة الحرب النفسية، لأنّها الأقدر من بين جميع وسائلها على تحطيم معنويات الخصوم، وإذلالهم، وتدمير مناعتهم وتوازنهم النفسي، وتخريب طمأنينتهم واستقرارهم الداخلي، إنّها إعصار عاتٍ جبار، يخلّف الخراب والمآسي والدمار، لأنّ لها قدرة هائلة عجيبة على الانتشار والسريان بين الناس، تماماً كما تنتشر النار في الهشيم، لا تحدّها حدود، ولا يحجزها حاجز، وأيضاً لقدرتها على اكتساح أكثر الحصون مناعة وتحصيناً، والتغلغل إلى أعماق النفوس، مُزلزلة سكينتها، وعابثة باستقرارها وطمأنينتها))، ومخلفة الهزائم النفسية والمعنوية، وبالتالي الآلام والأحزان، ذلك، لأنّ “العقول ليس عليها جدران حماية”.
كما تعدّ الشائعات من أهم أساليب ترويع الأفراد والمجتمعات، حيث إنّها لا تقتصر على زمان أو مكان معين، بل حيثما وجد المجتمع البشري ظهر خطر الشائعات، خاصة وقت الأزمات.
حيث تختلف الشائعات عن أساليب الترويع الأخرى، في أنّ الوسيلة التي تحملها وتنقلها وتزيد من حدتها وفعاليتها هو المجتمع المستهدف نفسه، فما أن تصل الإشاعة إلى بعض أفراد المجتمع المستهدف حتى يقوموا هم بترويجها إلى كل من يعرفون، ووصل الأمر بالبعض ليس للنقل فقط، بل الإضافة عليها، وربما اختلاق أجزاء كثيرة من تفاصيلها، مما يجعلها أعظم وأقوى وسيلة إعلامية، وبالتالي يساعد على سرعة نقلها، وكذلك على زيادة فعاليتها وتأثيرها على الأفراد أو المجتمعات المستهدفة.
وهذا يعني أنّ الإشاعة تمثل أداة جهنمية في يد مستخدميها، أفراداً كانوا، أو جماعات، أو مؤسسات أو دولاً، يُمَكنهم توظيفها من الإيقاع بخصومهم وأعدائهم، وإلحاق أفدح الهزائم المعنوية والمادية بهم، من دون جهد كبير أو عناء.
وتلتقي كل التعاريف والدلالات الاصطلاحية، وتكاد تُجمع على أنّ الإشاعة خبر مُختلق مُفتعل مُلفق، يُراد له الانتشار والسريان، لا يستند لا إلى مصدر معروف مؤكد، ولا إلى أصل معلوم مدقق، ولا إلى دليل أو برهان على صحته وصدقه، أي أنّه مجردٌ عن أي قيمة يقينية، وعارٍ من الصحة والحقيقة.
فالإشاعة من السهل أن تنطلق، وليس من السهل أن تتوقف، فهي تسير بسرعة الضوء، كما يذكر د.ساعد العرابي، في زمن الأقمار الصناعية والهاتف النقال والشبكة العنكبوتية. فهي ما إن تخرج من فمٍ، حتى تقع في آذان تُقلِع إلى آذان أخرى، وفم ثالث، حتى تعم الآذان المقصودة كلها. إنّها “ضجيج غير مهيكَل”، كما تعرفها بعض القواميس. وصدق تشرشل حيث قال: “يمكن للكذبة أن تدور حول العالم، بينما ما تزال الحقيقة ترتدي ملابسها”. وقد “تصبح الكذبة حقيقة إذا تم تكرارها بما يكفي”. كما قال لينين.
إنّ الإشاعة بذلك، كما يقول د.ساعد العرابي الحارثي، عمل مُضرّ لا يقتصر ضرره على الأفراد، بل قد يشمل المجتمع كله، فلا أحد يَسلم من شرورها وانتشارها، ما دام هناك تنافس في الحياة، في مختلف المجتمعات ومصالح متداخلة.. وسوء قصد، ونفوس مريضة، تسعى لتحطيم صورة مثالية عن إنسان تعاديه.
ولا عجب، فالإشاعة، كما يقول العميد مهدي علي دومان، لها قدرة على تفتيت الصف الواحد، والرأي الواحد، وتوزيعه وبعثرته، فالناس أمامها بين مُصدق ومُكذب، ومُتردد ومُتبلبل، تجعل من المجتمع الواحد، والفئة الواحدة، فئات متعددة، فكم أقلقت من أوضاع آمنة، وأشخاص أبرياء، وحطمت من عظماء، وهدمت وشائج، وتسببت في جرائم، وفككت من علاقات وصداقات، وكم شوهت من صور، وكم هزمت من جيوش وأخرت سير أمم.
إنّ المجتمع الذي تنتشر فيه الشائعات معرّض لأن يكون حاضناً لانتشار تدني المعنويات؛ كونها تؤسس حواجز تحجب الحقائق، فتحدث غموضاً وبلبلة تحول دون التعرّف على صحة وحقيقة الشائعة، مما يجعلها خبراً صادقاً تتناقله وسائل الإعلام، مما يولد مناخاً للناس ويؤثر في مصداقية الرأي العام، ويفسح المجال لانتشار الأكاذيب والأخبار المبنية على مقاصد سيئة، ويبثّ طاقات سلبية في المجتمع تشلّ حركته وفاعليته وإنتاجه، ويمكن أن تكون مخلخلة للتنظيم الاجتماعي.
فهي الخنجر السام الذي يطعن الأبرياء من الخلف، وهي وباء اجتماعي، وظاهرة.. يجب على كل الشعب أن يتكاتف لمقاومتها والقضاء عليها، ويبقى لوسائل الإعلام دور وطني للقضاء على “الشائعات السوداء”.
ولابدّ من وسائل للوقاية من الإشاعة وهي:
– نشر الحسابات في مواقع التواصل، والجهات والمنظمات والهيئات التي تأخذ منها المعلومات، وتحديثها بشكل مستمر.
– عدم ترديد الإشاعات وتكذيبها من خلال التوعية المستمرة.
– اقتفاء خط سير الإشاعة إلى جذورها والتخطيط الشامل لدرئها.
-تحليل الإشاعات لمعرفة أهدافها ودوافعها ومصدرها، ومن يقف وراءها أو المستفيد منها ليكون الرد عليها علمياً وواقعياً ومنطقياً.
. نشر الحقائق دائماً للجماهير في كل ما يتصل بحياتهم، لأنّ الإشاعات إنما تسري وتنمو في المجتمع المغلق.