من الإسلام إلى التعريب – الجزء الخامس

د. محمود عباس

   شعوب سوريا الكبرى وشمال أفريقيا، أصحاب
الحضارات العديدة والمعروفة لكل مؤرخ أو مطلع على التاريخ، لم تعرف مدنهم العنصر
العربي، قبل مرحلة الاجتياح، إلا تاجراً عرضياً، دخلوها عند الاجتياح
العربي-الإسلام كجيوش غازية. قبلها كانت لغاتهم وثقافتهم وعلاقاتهم الاجتماعية
تتجاوز معارفهم، غريبة ومتفوقة عليهم. فمع ظهور الإسلام فرض عمليات التغيير الثقافي
الديني واللغوي وبالتالي العلاقات الاجتماعية، تحت مفاهيم الرسالة الإلهية والآيات
القرآنية، رضخوا لها مع مرور الزمن، ومعها تخلت الشعوب عن واقعهم الحضاري، وسادت في
بداياتها مفاهيم مشوهة عن الإسلام، لسببين:
 الأول أن القبائل الجاهلية المجتاحة بذاتها لم تكن تعرف الكثير عن الإسلام،
والثاني، جسر التواصل اللغوي كان هشا أو معدوما بين القبائل العربية والشعوب
المجتاحة، فطغت العادات وتقاليد القبائل الجاهلية كمفاهيم إسلامية، وطبق الكثير
منها كقوانين إلهية، علما أن بعضها كانت مستسقاة من نظام القبائل الجاهلية، خاصة
المهمة والتي جذبتها إلى الغزو، كتلك المتعلقة بالغنائم والسبايا والقتل والسيادة
والزواج من الإمة، رغم اختلاف طريقة العرض، وغيرها، وقد سادت هذه القوانين في
الواقع العملي في زمن الرسول وطبقها الخلفاء الراشدون نفسهم، ومثال عورة الإمة  ما
بين السرة والركبة كعورة الرجل، طبقها الخلفاء الراشدين، وخاصة عمر بن الخطاب وشدد
عليها، وقد نهر العديد من الإمات اللواتي كن يلبسن مثل نساء العرب، وفصل معها
الطبقات في المدينة والمكة، حتى أنه منع من دخول الموالي إلى داخل المدينة ومكة حيث
يتواجد العرب، رغم أنهم كانوا مسلمون، وبها ناقض مفهوم الأمة الإسلامية والمساواة
فيها، وحيث لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى، وهو ما لم يطبقه محمد بذاته، عندما
فرق بين زوجاته من العرب والإمة اللواتي لم يدرجن كزوجات، وهو النظام القبلي
الجاهلي، ومتناقض مع ما عرضه في الإسلام بشكل نظري.  فالتناقضات بين النظرية
والتطبيق العملي تعد المعضلة الأهم التي مزقت جميع الأديان السماوية وقوضت
الإيديولوجيات السياسية والفلسفية، وتفاقمت هوة التناقضات بالنسبة لأديان السماوية
ومنها الإسلام مع مرور الزمن، والتي أدت إلى ظهور الطوائف السبعين وأكثر بين
الأديان السماوية والصراعات اللامتناهية بينهم، إلى حد ظهور سيول من الدماء بين
متبعيهم، كما وأدت إلى ضمور معظم الإيديولوجيات. 
   تحت هذا الغطاء المتناقض
الألوان، طغت الشريحة العربية الحاكمة في المدن وعبثت قبائلهم بالشعوب، وكانت
غايتهم الرئيسة الغنائم والسبايا إلى أن فاضت بهم مكة والمدينة، ومع التوسع تفاقم
مفهوم الأسياد والموالي، وابتذلوا فقهاء المسلمون من الشعوب الأخرى، وساد منطق
تفضيل الجزيرة العربية على جغرافية الأمصار، وبقيت تلك المناطق منابع الغنائم
والسبايا والعبيد، حتى عندما انتقلت مراكز الخلافة إلى دمشق والكوفة وفيما بعد
بغداد، كان التفضيل للجزيرة العربية، وعليه ورغم سيادة اللغة العربية ظلت تلك
الشعوب غريبة وغير مرغوبة بها ضمن المجتمع العربي، وكانت تنظر إليهم كشعوب مستعمرة
دون العرب سوية، دينيا واجتماعيا، ولم يطبق جميع قادة المسلمون العرب وبينهم الرسول
نفسه عمليا ومنذ ظهور الإسلام مفهوم الأمة الإسلامية المتساوية، رغم التبجح بها
نظريا، ومن المعروف أن ثقافة الصحابة وبينهم الخلفاء الراشدين كانت بسيطة واستمرت
قبلية في معظمه، لم تتجاوز القرآن  بشكله الشفهي دون معرفة قراءتها أو قراءة كتاب،
فلم يكن بينهم من يعرف الكتابة إلا عمر بن الخطاب ويقال علي بن أبي طالب وهما من
بين 17  قريشيا كانوا يعرفون الكتابة عند نزول الوحي، وكانت السيادة ومنذ ظهور
الغزوات الإسلامية الأولى لهؤلاء من قادة القريش أولا، ومعروفة زعامة قادة الأمويين
رغم حداثتهم بالإسلام، وإسلامهم الشكلي، وفيما بعد لأتباعهم وعلى مر التاريخ، أو
للبعض من قادة القبائل العربية الجاهلية خارج الجزيرة، وجميعهم لم تستطع الإسلام من
تغيير طبيعتهم وعاداتهم البدوية الجاهلية، وإلا فما الفرق بين الخلفاء الراشدين
والخلفاء الأمويين والعباسيين الذين ركزوا على القبيلة والعنصر العربي، وقادة كانوا
أصحاب الرسول كخالد بن الوليد وعمر بن العاص وزبير بن العوام وعبدالرحمن بن عوف
وزوجة الرسول عائشة بنت أبي بكر وجميعهم مارسوا القتل بطرق بدوية وعادات قبائل
جاهلية، وخارج الجزيرة فرضوا العنصر العربي بمطلقه، ومعظمهم قبائلهم ظلوا رحل وفي
حالة البداوة خارج المدن، وعاشوا على أطراف المدن ضمن البادية، على غنائم الغزوات،
ولم يبنوا المجمعات السكنية ولم يستوطنوا المدن المحتلة، إلا مجموعات قليلة، بينهم
الشرائح المحاطة بالحكام وبعض التجار والشريحة الدينية المتعلمة والتي كانت قليلة
العدد.
   حدث الاستيطان العربي الواسع في معظم المناطق المحتلة في بدايات القرن
الماضي، وتوسعت في بعض الجغرافيات بعدها، خاصة في سوريا الكبرى، يستثنى، من هذا
التاريخ، مملكتي الغساسنة والمناذرة الموجودتين على اطراف بادية هذه المنطقة، ولا
يوجد إلا القلائل من أهل المدن التاريخية الكبرى في تلك الجغرافيات من ينتمي إلى
عشائر عربية، ومن المعروف أن العرب بدون الانتماء العشائري لا ماهية له، أي العرب
والعشيرة حالتان لا ينفصلان كمعظم شعوب المنطقة، باستثناء بعض العائلات التي تخلت
عن انتمائها الأصلي، وانتمت إلى بعض القبائل العربية للحصول على مراكز دينية أو
اجتماعية، في الفترة التي كانت العربية هي الوثيقة الوحيدة لرفع الشأن الاجتماعي في
الدولة الإسلامية، ولا شك ظهرت بعض المدن داخل البادية سكنتها القبائل العربية،
ومعظمها من العشائر العربية المعروفة أصولها وحتى طرق رعيها. 
   مراحل عديدة
تلاحقت، أدت إلى تغيرات عميقة، في بنية المجتمعات، وكل مرحلة تحتاج إلى دراسات
واسعة، سنختزلها، مع إشكالياتها في هذه القضية. لعرض التمييز بين فترتين عصيبتين،
فترة ظهور مفاهيم الانتماء العروبي القصير أو كما يقال مرحلة بروز العصبية القومية
العروبية، والمناداة بالوطن العربي، وهي الفترة الأكثر تركيزاً على تعريب المناطق
المحتلة إسلاميا، ومقارنتها بمراحل اجتياح القبائل العربية-الإسلامية الماضية أو
مرحلة الاحتلال، أو الانتماء إلى الأمة الإسلامية في جوهرها الروحي أو كما نودي به،
والعربية في ماهيتها الفعلية. 
   ففي بدايات القرن الماضي، برزت الإيديولوجيات
القومية، مدموجة بالانتماء الديني، فحاول روادها على مدى قرن خلق تلاءم بينهما
لتسهل سيطرتها وتسود عن طريق جلب الشعوب الإسلامية وخاصة غير العربية إلى مفاهيمها.
 ففي العالم الإسلامي وضمنها العالم المسمى جدلاً بالوطن العربي، احتضنتها المؤسسات
الإسلامية، والشخصيات الدينية المعروفة، على مدى القرون السابقة، وضمنها فترة
الاستعمار العثماني، فعلى أكتافهم برزت حركة التنوير المعروفة في المسيرة التاريخية
بالحديثة، فكان الإسلاميون رواداً، خريجي تكيات ومؤسسات إسلامية، والغريب أن معظمهم
لم يكونوا عربا، تبنوا مفاهيم العروبة، والانتماء العربي، وأحيوا الثقافة القومية
العربية، للعلاقة الجدلية بينها وبين الإسلام في مفاهيمهم، عن طريق اللغة والقرآن،
ومهدوا لظهور الفكر العروبي وتكوين الأحزاب القومية كالبعث والناصرية فيما بعد
وغيرهما، وكان لهم دور غير قليل في تقوية شوكة الأحزاب القومية الإسلامية العروبية
على الساحة، قبل أن يظهر الصراع بين المنهجين الديني والقومي، فعزلت الأحزاب
القومية ذاتها وتبنى قادتها المفاهيم العلمانية العروبية، وتبنوا أيديولوجيات قومية
مختلفة، وبشعارات مغايرة، فمع مرور الزمن تعمقت الخلافات بينهم وبين الأحزاب
السياسية العربية الدينية، وتفاقمت إلى أن بلغت مراحل الصراع على السلطة، ومن
نتائجها المشاكل التي حصلت في القرن الماضي في مصر، والجزائر، وسوريا، وكانت
نتيجتها مجازر حماه وحلب، ومثلها حصلت في دول عربية وإسلامية أخرى.
  خصصت
الأحزاب القومية والسلطات العروبية الشمولية معاهد وأكاديميات، لطغيان الفكر
العروبي، وتثبيت انتماء الشعوب المحتلة للعروبة، خاصة تلك التي بقيت قابعة تحت
الاحتلال العثماني على مدى قرون من الزمن بنفس النهج الإسلامي، والتي حاول
العثمانيون الأتراك  طمس معالمهم الثقافية خلال فترة استعمارهم، بفرض العنصر التركي
واللغة التركية عليهم، وكانت ستطغى لولا القرآن العربي، علماً أن معظم ممالك والدول
التي  سادت في شمال أفريقيا خاصة كانت أمازيغية المنشأ والحكام، وهي نفسها التي
تعربت مع مرور الزمن، ومثلهم شعوب  سوريا الكبرى والقبط والنوبيون. وبعد الاستعمار
العثماني بثت المراكز الثقافية الإسلامية-العربية دراسات وإيديولوجيات فكرية
وثقافية عروبية متنوعة ضمن شعوب المنطقة، وفرزت لها كليات خاصة، ودعمتهم بطريقة أو
أخرى الدول الاستعمارية العصرية بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، معظمها لتقويض
الإمبراطورية العثمانية المنهارة، وساندتهم شخصيات من الشريحة المثقفة الإسلامية
غير العربية، والذين كانوا في عمقهم إسلاميون أصبح العديد منهم مع مرور الزمن
عروبيون أكثر من العرب، كرست الأحزاب العنصرية والسلطات العربية جهودهم، وصرفت
عليهم الأموال، لترسيخ مفهوم عروبة سوريا ولبنان وفلسطين والأردن والعراق، وشمال
أفريقيا جميعها، قبل طغيان مفاهيم القومية العربية على الأمة الإسلامية بالواقع
العروبي الجاري، وبالتالي خلقوا مفهوم الوطن العربي، رافقتها إنكار أو الغاء ماهية
وتاريخ جميع الشعوب القاطنة في المنطقة أصحاب الأرض الحقيقيين، وبدأت عملية التطبيع
العربي والتغيير من الكيان الإسلامي إلى الاحتلال العربي، وبدأت عمليات طمس العلاقة
الجدلية بين الإسلام وسيادة اللغة العربية، لتبقى الأساليب التي تستخدمها الأحزاب
والسلطات العروبية الشمولية لاستمرارية الاستعمار العربي لهذه المناطق تحت الغطاء
الإسلامي، لغزاً مخفيا عن العالم والشعوب المستعمرة

يتبع…

د. محمود
عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

25-8-2015

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…

شكري بكر هذا الموضوع مطروح للمناقشة قد يؤدي بنا للوصول إلى إقامة نظام يختلف عما سبقونا من سلاطين وحكام وممالك وما نحن عليه الآن حيث التشتت والإنقسام وتبعثر الجهود الفكرية والسياسية والإقتصادية والعمل نحو إقامة مجتمع خال من كل أشكال الصراع وإلغاء العسكرة أرضا وفضاءا التي تهدر 80% من الإقتصاد العالمي ، إن تغلبنا على هذا التسلح يمكن…

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…