إبراهيم محمود
من البداهات التاريخية والجغرافية بالنسبة لعلاقة تركيا مع الكرد، أنها تجعل من إعلامها الاستخباراتي المرجع في كل شيء، ودونما استثناء، بحيث يكون كل ما ينتَج فيها، كل ما يكتب في مجالاتها المختلفة ملحقاً بما هو دعائي- إعلامي استخباراتي النَّسب. ومن ذلك كذب أجهزتها المزمن على أن لا وجود للكرد، وإن ” أخطأت ” قليلاً، فالعدد لا يستحق الذكر، عدا عن اعتبارهم من أرومة تركية .
هكذا يتداخل إعلامها المؤدلج مع إعلام الدول الأخرى، تلك التي تقاسمت كردستان، في تشويه صورة الكردي، والنَّسب الكردي. وعلينا ألا نستغرب مما يجري في هذا النطاق. حيث يصبح الكذب فضيلة تركية، ومن بدء الحديث عن الاسم ” التركي “.
إذ كما هو معروف هو أن التركي الذي لم يكن يعرف بهذا الاسم حتى قبيل قرن، كان يخجل من التعريف بنفسه تركياً، كان يسمي عثمانياً أو حتى كردياً ” المفكر التركي اسماعيل بيشكجي ، هو من يتعرض كثيراً لحقيقة تاريخية كهذه في العديد من كتبه، وهو يتناول مفهوم ” المنهج العلمي ” وكيف يُصطنع، أو يزيَّف في تركيا، من المؤسسة القضائية إلى الجامعة، إلى مستوى الذهنية اليومية للإنسان العادي ” وهذا الكتاب الذي ترجمته إلى العربية أي: منهج العلم، نقلاً عن الكردية، وصدر عن جامعة دهوك، قبل فترة “.
ومصطفى كمال أتاتورك هو الذي سعى جاهداً إلى الدفع بالتركي، وقبل قرن، لأن يتباهى باسمه ” تردد عن أن معناه: الإنسان “. ولا بد أنه في قرارة نفسه وهو مختلق انكشارياً، يستشعر دونية، وحقداً على الآخرين، ممن لم يتم اختلاقهم، أو من لم يزور تاريخ نشأته وحضوره في التاريخ .
من ” أتراك الجبل ” كما جرت تسمية الكرد، إلى اعتبارهم مجرد عدد ضئيل، وأن لغتهم فرع من اللغة التركية، والتركية كلغة، لا تعدو أن تكون شعوذة لغوية، وهي نتاج اختلاسات من لغات كثيرة، ومنها مفردات في اللغة الكردية، وما أكثرها.
إلى اعتبار الكردية كلغة مجرد مجموعة محدودة جداً من الكلمات، إلى التنكر لوجودهم التاريخي، إلى اعتبارهم كابتداع لآلة الحرب الإعلامية التركية، ممثلة في الموجه الإعلامي أردوغان، بأنهم إرهابيون. إرهابيون، مدسوسون في التاريخ، في الجغرافيا، والاستهانة بهم، جرّاء الغطرسة الإعلامية التركية.
جرّاء هذا الكذب العريق الصفيق، والتلبس به، يصبح كل مخالف للذهنية التركية المؤدلجة وهماً، كل من يسمي الكذب التركي عدواً، كل من يشير إلى عدوان التركي معادياً للحقيقة، وأهلاً للكذب. هكذا يصبح الكذب فاعلاً فعله في الكينونة التركية .
يكذبون على إعلامهم، حيث يجعلون النهار ليلاً، والحلو مراً، والتعتيم على الحقيقة عين الحقيقة .
من الفضائل الكبرى: تجنب الكذب. أيّ فضيلة لتركيا وهي تجعل من الكذب إمامها، في قعودها وقيامها إذاً ؟
+++
حقيقة حدودية – إبراهيم محمود
ما أعلم به هو أن عمري هو عمر زرع حدود روجآفا بالألغام من قبل تركيا، في خمسينيات القرن العشرين. فأنا كائن حدودي، ومقسَّم ككردي حدودياً، وأحمل كغيري من الحدوديين ذاكرة متخمة بفظائع حدودية. ما أعلم به وأعلمه جيداً هو أن الحكومات السورية وحتى اللحظة، لم تطلق رصاصة واحدة صوب الأراضي التركية، والأرض ” السورية ” تنتهَك، حتى عمقها من قبل الجيش التركي وعناصر استخباراته.
ويظهر أن تركيا كنظام عنصري، فاشي بغيض، مذهولة حين ترى بأم عينها أن هناك من يرد عليها، من لا يكتفي بتعرية أخلاقيتها الفاشية، إنما يرد عليها، وينال من عسكرها وآلتها، كما يجري اليوم عدوانياً. نعم. للمرة الأولى هناك من يرد على العدوان التركي، ويوقع فيه الخسائر المذلة لتركيا النظام.
عمري يحمل دمغات الحدود المزروعة بالألغام، إنها وشوم القهر التركي، والعنجهية التركية، والتعدي المستمر لرجل النظام التركي، وذاكرتي ملأى بصور كردنا ممن انتهوا حدودياً، وعُذّبو حدودياً، وماتوا قهراً حدودياً، وعاشوا آلاماً وأوجاعاً حدودية. نعم، أنا إنسان حدودي، وقامشلو تشهد بذلك، وبيني وبين نصيبين مسافة ذراع، وأرى في نصيبين ظلال أهلنا الكرد، أقاربي، كردنا، وأبعد منهم، أسمع أصواتهم الكردية، حيث لا تعود الحدود إلا شهادة دامغة على طغيان النظام التركي. ولدي من المستمسكات ما يبقي تاريخ هذا النظام في وحل آثامه وجرائمه ..
وهذه سابقة في تاريخ تركيا ” المعاصر ” هذه سابقة للنظام السوري نفسه، حين يترَك الكرد في مواجهة مصيرهم المروّع، ويغض الطرف عما يجري من عدوان على ” أراضيه ” وبحجج واهية، ليثبت منطقياً ألا صلة له بهذه الأرض التي تعيش عدواناً تركياً وشراذمة من العمق ” السوري ” .
هي المرة الأولى التي يقاوم الكرد آلة الحرب التركية الكبرى وعسكرها الفاشي، ونظام أردوغان الفاشي، سابقة لا أظن أنها ستمر مرور الكرام، وفي وضح النهار يسقط عسكرها، يتمرغ وجه تركيا في وحل الخزي والعار، حين تتهاوى الدولة: النظام التركي الفاشي من عليائها المزيفة، وهي تقاوَم. وللمقاومة الآن صفة واحدة في الغالب الأعم: الكردية .
ولأن غالب تركيا تخوض هذه الحرب العدوانية مع شراذمتها، فعلى الكرد، أن يعيشوا هذه اللحظة التاريخية، أن يثبتوا أنهم كرد، وليسوا أكراداً.
أن يثبتوا من خلال مقاومتهم الفعلية، حيث يتفرج النظام السوري، وحيث تتفرج القوى الكبرى القائمة على إنسانية مزيفة، أنهم لا يدافعون عن أي نظام، وقد تخلى عنهم، وإنما عن أرضهم، وعن وجودهم التاريخي. وبهذا يدخلون التاريخ من بوابته الكبرى .
سنصعد إليهم … سنهبط لهم/ إليهم- إبراهيم محمود
نعم، هي ذي عبارة واحدة تستقطر شقيقاتها الأخريات: سنصعد إلى العدوان التركي وغير التركي بأرواحنا وهي مسلحة بآلاف السنين عمراً وديمومة بقاء. سنصعد إلى العدوان بظلال قاماتنا، باسمنا الذي لا يُستنسَخ، ولا يصرَّف بلغة أخرى. سنصعد إليهم بسمو قاماتنا، بثبات خطانا، بجسارة أيدينا وهي ترد على موت الأعداء بحياة لا تقهَر، كما كنا بالأمس، سنكون هكذا اليوم، وغداً وبعد غد، سنصعد إليهم برصيدنا من الحياة التي لا تنتهي، بل تتجدد .
سنصعد إليهم بجوعنا العظيم، بعطشنا الجليل، بقهرنا العنيد، بألمنا الصلب المراس،بظلال اسمنا ذات الأسماء الحسنى حتى سدرة المنتهى. سنصعد إليهم بأعمارنا التي لا تكف عن الصعود، ووجوهنا التي لا تكف عن الارتقاء بجباهها العريضة، سنصعد إليهم بقلوب أمهاتنا ذوات الإرادة المتراسية، وحب أطفالنا للحياة، وتمسك عجائزنا بالبقاء، وعشق نسائنا للقمم وهن يلدن كرديتهن ويطرحنها في وجه كل عدو.
سنصعد إلى العدو بقولة ” لا ” لعدوانك، حاملين معنا حبنا للأرض التي عايشناها منذ آلاف السنين، لمائنا الذي يتكلم بلغتنا، لترابنا الذي يتنفس عبر مسامات أجسامنا، لهوائنا الذي يزهو عبر رئاتنا.
سنصعد إليهم بأرضينا التي لا تخشى عدواناً وهي تنبسط كالحقيقة، وهي تستحيل رصاصة قاتلة في مواجهته.
سنصعد إليهم، هؤلاء المعتدون، الآثمون، الطغاة، الجناة، بكل إرثنا في البقاء والصمود والتمسك بالحياة.
سنصعد إليهم بحيواناتنا التي ألفتنا، بكلابنا التي تخشاها ذئابهم، بأشجارنا التي لا تنحني لأي عهاصفة، بأعشابنا التي تكسو أرضنا بيناعتها، بجمادنا وقد اشتعل قوة ونتوءات قاتلة في خاصرتهم.
سنصعد إليهم بكرديتنا ذات الاسم الوحيد، وهي مدججة بتاريخنا الذي يشدنا إلى جغرافيتنا، وجغرافيتنا التي تشهد على عراقة حضورنا فيها .
وسنهبط لهم، إليهم ، بالموت الزؤام، سنهبط إليهم، لهم، وفي إثرنا جبالنا التي يعتد بها، بأنهارنا التي تفيض حياة، سنهيط إليهم، لهم، بالعار الذي ينتظرهم، ويتلبسهم، مابقوا معتدين، قتلة. سنهبط إليهم لهم، بالحقيقة التي تعريهم حيث هم، حيث يكذبون عليهم، وحيث يحاولون تصريفها كما يريدون. سنريهم حقيقتهم البغيضة .
سنهبط لهم، إليهم بموتنا وقد أصبح موتهم، بقهرنا وقد تلبسهم، بإرادنا وقد ضعضعت إراداتهم.
سنهبط لهم، إليهم، بالخذلان المبين، والانكسار المبين، والذهول الذي يردهم على أعقابهم خاسئين. سنهبط إليهم، لهم، نلوّح لهم بنهار قاماتنا وتعلقنا بالحياة، لنريهم سواد ليلهم، وبؤس صورتهم عن أنفسهم، وعن تاريخهم، وعن غطرستهم.
سنهبط إليهم، لهم، ليدركوا ما لم يتوقعوه وهو أنهم في الدرك الأسفل من التاريخ .