ماجد ع محمد
صحيحٌ أن التضحية بالقرابين ما تزال من بعض الطقوس المقدسة لدى أصحاب الديانات التقليدية في أفريقيا وكذلك الأمر لدى المؤمنين بالماورائيات في الشرق الأوسط، ورغم انتشار جمعيات الرفق بالبهائم في جميع الدول الغربية، إلاّ أن أخطر ما في قضية التضحية هو سهولة تبديل القربان الحيواني بقربانٍ بشري في عالم السياسة، وذلك لأنه عدا عن موضوع المنافع الاقتصادية بين الدول، فالتضحية بالبشر تُشفي غِل القوميين والمتدينين على حدٍ سواء، وتُدغدغ الأحقاد الدفينة أكثر، وتحقق المآرب الاستراتيجية بشكلٍ أفضل، وتقرّب دهاقنة النُّظم من جنة الراحة أضعاف ما هي عليه إن اكتفوا بالقرابين البهيمية؛ طالما أن القربان البشري يُنشط الدماء في شرايين الأيديولوجيات الدينية والدنيوية وأصحابها، كما يساهم في إثراء البنوك الرأسمالية، لأنه كفيل باستجرار الخراب والدمار الذي يُنشِط المتغذين على الدم البشري كاكسيرٍ وحيدٍ قادرٍ على إطفاء الظمأ بخلاف دماء كل البهائم الماشية والطائرة والزاحفة.
ولكي يعرف البعيد عن المشهد شيء عن الذبيحة التي كانت تتجهز على نار المراقبة الهادئة من قبل استخبارات كلا الدولتين، نود تذكير القارئ بأن النظام السوري بعد أن شعر بهشاشته وأدرك بأنه غير قادر على حماية مؤسسات الدولة في كل سورية، بعد أن صارت المناطق تُنتزع منه منطقة إثر أخرى منذ أن بدأ العمل المسلح ضده عقب انتقال المظاهرات السلمية إلى حالة الانتفاض عليه بعد لجوء قواته وأجهزته الأمنية إلى ممارسة كل أشكال البطش، واستخدامه أحدث وأكثر الأسلحة فتكاً على مواطنيه، فسلّم حينئذٍ النظام إداراته في المناطق الكردية لحزب الاتحاد الديمقراطي (pyd) بكل يسر، ومن دون سقوط ضحايا بشرية، وهذا الحزب بدوره ومن يومها تعاظم شأنه، ورأى نفسه على غفلة من الزمن يمتلك قوة عسكرية ومادية كبيرة، وحيث أن عقيدته السياسية جعلته يتطوسن وينسى بأنه مجرد مؤتمن على تلك المؤسسات، وهنا لن نتحدث عن محاربته لتنظيم داعش نيابة عن التحالف الدولي الذي مده هو الآخر بسبب الحرب ضد داعش بالسلاح المتطور نوعاً ما، ومرة أخرى نسي الحزب بأنه مجرد أداة مؤقتة لدى الدول التي تمده بالمال والسلاح لقاء الحرب على داعش حصراً، وليس لأي غرض سياسي أو حتى مدني لاحق، إذ لم توقع كل الدول التي مدته بالعتاد والسلاح معه على أي اتفاقٍ سياسي يضمن مستقبله الوجودي واستمراره لما بعد ذوبان الدواعش أو إنتهاء دورهم.
قرابين دمشق وأنقرة قرابين دمشق وأنقرة
وتركيا بدورها كانت من وراء الحدود، وعبر أجهزتها الأمنية ونواظيرها البعيدة تراقب الوضع عن كثب، بل ووفق شهادات المهربين في منطقة عفرين، فهي سهّلت أمر تمرير السلاح إلى الداخل السوري عبر الحدود لأنصار وتجار (pyd) ليستفيدوا من ذلك التسيب المؤقت والمقصود، وربما غاب عن فطاحل أو بعير الأدلجة من حاخامات الحزب، التفكير ولو برهةً بما وراء حرص تركيا على عدم امتلاك السلاح من قبل أي طرف كردي من الشباب المشارك في الثورة، إذ حسب النقيب السابق في الجيش السوري الحر، قائد لواء صلاح الدين الأيوبي، بيوار مصطفى، أن تركيا باعتبارها كانت ممراً لعبور السلاح والدعم اللوجستي لكتائب الجيش الحر في سورية، لم تضع الفيتو أمام تسليح أحد غير الكرد في كتائب الجيش الحر، وأضاف مصطفى أن تركيا وقفت بقوة ضد تسليح الكرد المنضمين للثورة! فكيف إذن ولماذا تمنع تركيا وصول السلاح لكردي مشارك بالثورة؟ وبالمقابل تسمح للأجنحة العسكرية لـ:(pyd) المعتبر كعدو لها، بأن يقوى شوك وحداته العسكرية، ويتعاظم شأنها، ويتضخم بنيانها، إن لم تكن تركيا تخطط منذ البدء لهذا اليوم، وبأنها إنما كانت ومنذ اليوم الأول تمهلهم إلى حين اكتناز القربان الذي سيكون جديراً بالتضحية به بعد أن تتهيأ الظروف والمناخات وتُجهز الخوانات وعدة الذبح والشواء على نار الحلبة السياسية التي تجيدها دول المنطقة ليس الآن فحسب، إنما ومنذ عشرات الأعوام، والتي شارك في تحضير أحطابها في الوقت الراهن، نظامي دمشق وأنقرة وبمباركة روسيا وأمريكا.
وحقيقة إن لم يكن حزب الاتحاد الديمقراطي متواطئاً مع استخبارات دمشق وأنقرة وواشنطن إلى تاريخ اليوم، باعتبار أن المناطق الكردية تتعرض للهجوم بينما هو ما يزال إلى تاريخ كتابة هذه المقالة يحمي مصالح الدول في دير الزور والرقة! فهو حينها أدنى من تسمية نفسه بالحزب السياسي، لأن الحزب السياسي (الكردي) الذي يجهل كُنه الاتفاقيات الأمنية الدائمة بين دول المنطقة الثلاث، تركيا، سوريا وإيران بخصوص الكرد، بعد أن خرج العراق من طوق الاجتماعات الرباعية بشأن الكائن الكردي الخطر على أمن إله هذه الدول! والحزب الذي ينسى بأن النظام ومنذ التسعينيات وكلما أراد التقرب من تركيا قام بحملة ضد مؤيدي حزب العمال الكردستاني واعتقلهم وأرسل صورَ عن أضابير اعتقالات أنصار ومؤيدي الحزب للاستخبارات التركية كرعبون صداقة وود وتعاون، برأينا أخير له العمل بشأن الزواحف والدواجن والبعير، وليس العمل في المجال البشري والاستئثار بالقرار الإنساني لمصائر الناس في ثلاثة أقاليم برمتها، وحيث أن من يجهل تلك الاتفاقيات الدورية، ومآرب تلك الدول من وراء لقاءاتها الأمنية الدائمة، هو كالأبله الذي يمر من أمام كاميراتٍ تترصد كل تحركاته، وبدل أن يشك ليس بتلسكوبات الدول فقط وإنما حتى بآلهتها أيضاً، رأيناه فوقها ضاحكاً يبتسم ابتسامةً بلهاء بوجه من يترصدون دبيبه حتى في المنام، وذلك لأن سمك تراكم طبقات اللافهم العقائدي لدى قادته، لا يسمح للحزب بأن يرقى إلى مستوى إدراك أصغر مراهقٍ يعي جيداً بأن المراصد تلك إنما كانت طوال السنوات الماضية توثق نموه اليومي، وترسل إشاراتها المتتالية إلى القصّاب الراصد والمنتظر على أحر من الجمر أوان اكتنازه وبلوغه مرحلة النضوج والاستواء، ويتهياً بشوقٍ جارف للحظة الإنقضاض عليه، والدليل على ذلك ها هو موقف نظام بشار الأسد الأخير من الهجوم التركي على شرق الفرات، وعلى لسان نائب وزير الخرجية فيصل مقداد، الذي قال إن “القوات الكردية منحت تركيا ذريعة لغزو سوريا، وسوريا غير مستعدة لإجراء أي حوار مع الوحدات الكردية” وكذلك ما ذكره نزار نيوف عن اللقاء بين “علي مملوك” المستشار الأمني لبشار الأسد ومدير المخابرات التركية “حقان فيدان” في موسكو قبل أسابيع من بدء الغزو التركي، وهو ما يؤكد بأنهما متفقان جداً، وكانا ينتظران بفارغ الصبرِ نضوج الضحية حتى يقوموا بشواء الذبيحة على خوان مصالحهم السياسية التي تتضارب وتتعارض منذ ثماني سنوات، ولكنها أي مصالحهم الدائمة لا تتوافق إلاّ إذا كان ثمة قربان كردي يجتمعون على جسده، ولكن يبقى الموجع أكثر هو أن جالِب الفيله إلى حقوله لا ينتعش هو الآخر إلاّ إذا أُريقت دماء شباب وشابات الكرد على مذبح أيديولوجيته.
المصدر: جريدة (The Levant) البريطانية العربية