هم، ولا نحن ُ

إبراهيم محمود
هم، أوربيون، أميركان، يخططون لأجمل الأيام التي ينتظرونها، وتنتظرهم أيضاً، وملؤهم نشوة، دون خوف. ونحن، ننتظر أحلك الأيام التي نسعى فيها لأن نكون أقل عدداً في الضحايا، وملؤنا ذهول.
هم، يبتكرون ألعاباً، ويدفعون عليها الملايين، ألعاباً أجيالاً، وفي الحال يصدّرونها إلينا، كلعبة ” البوبجي ” يسرقون منا أطفالنا، ويمارسون مسحاً لعقول شبابنا، وننسى أننا الهدَف الدسم لهم.
هم، وباسم الديمقراطية العصرية، يستقبلون أبناءنا، بناتنا، أو ندفع بهم إليهم اضطراراً، يفرشون أفخاذ نساءهم لشبابنا المسكونين بالكبت التاريخي، وخلال زمن قصير، يُنسونهم من أين جاؤوا، يفطمونهم الفطام النهائي عن الجهة التي قدِموا منها، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ونحن، هنا، نبكي وحدتنا القاتلة، وننتظر نهاية مرعبة لنا، حيث لا شيء يحوطنا سوى الصمت المتهكم، وندرة من يبكي عمرنا الأخير,
هم، يعلنون عن مسابقات، تستغرق أيام سنتهم، ويغروننا عموماً بها، متابعة ومشاهدة لها، رياضية وغيرها. ونحن نعيش ويلات مسابقاتهم الرياضية، إذ نخضع لمسابقاتهم القاتلة، مسابقاتهم البغيضة في أسلحتهم الفتاكة، صحبة شفقتهم الماكرة، وإنسانيتهم البغيضة.
هم، لا يكفون عن ابتداع الجوائز، واستقطاب شعوبهم، وغيرها، للانخراط في لعبتها، ونحن لا نمتلك الوقت الكافي، لأن ننسى أحزاننا على ضحايانا، لأن ننسى ألم جراحاتنا على ما ولدناه من أطفال يمضون سريعاً في جحيم آلاتهم ومخططاتهم الهمجية، لأن ننسى وجع فراق من ماتوا آباء وأمهات، أهلاً وأصحاباً، ميتات ليست طبيعية، على أيديهم بصور شتى.
هم، يهتمون بأمواتهم، وقد زخرفوا قبورهم وشاهدات قبورهم، ومن ثم انشغلوا بحياتهم، وكلهم اطمئنان واستقرار. ونحن، من نحن؟ لم نعد نعرف أي أرض نقتطعها، وقد تناهت لانهائية، لدفن موتانا الذين يقضون نحبهم بعسف دموي منهم، ومن سماسرتهم ووكلائهم فينا وفي أوساطنا، ونحن، لم نعد نمتلك القدرة على دفن موتانا وقد تمزقوا، وتشوهوا، ليواروا الثرى، دونما شاهدات قبور، دونما بكاء، حيث مآقينا لم تعد قادرة على ذرف دموع المصيبة الواقعة، ولا قلوبنا قادرة على الخفقان وتقبّل المزيد من الصدمات.
هم، يضعون النظريات الكبرى، في الهندسة، في الأدب، في الفن، وينشدون أشعاراً في غايةالجدة، ويرسمون لوحات، ثمة من ينتظرها في مزاد علني، وينال كل هؤلاء ما يزيد في حماسهم. ونحن، لا نمتلك الوقت اللازم، وفي حده الأدنى، للتفكير في نظرية، أو التهيؤ لكتابة قصيدة قصيدة، أو رسم لوحة تصلنا بما نحن فيه، فموتهم الموجه من على مسافات طويلة، يحول بيننا وبين وساعة الفضاء للنظر المطلوب، وقابلية الإقبال على الكتابة أو الرسم.
أي نكون مادتهم، موضوعهم، طعام أسلحتهم الفتاكة، شعوباً تسمى بالاسم، لينال كل منها، على أيدي ربابنة الحروب، وسماسرتها مشرقاً ومغرباً، الحصة المقدرة له. ولنا فيها ما لا نحسد عليه، لنا كرداً في خمس القرن الحادي والعشرين، ما لم نعلَم بنهايته التي تأتي علينا بالجملة.
هم، في وضعية غياب، ولكنهم حاضرون فينا، من حولنا، فيما يصنعونه، وفيما يدسونه بيننا، وداخلنا، ونحن، في وضعية حضور، لسان الجمع المتكلم، سوى أننا دون ما يعزى إلينا من حضور، في وضعية غياب وتغييب.
هم، حيث يكون في مختلف أزمنتنا، حيث القوة تقول سلطتها، ونحن، لسنا نحن، إلا فيما نراه، وفيما نعيشه، وفيما نواجهه من هذا المسلخ الدولي الدموي الذي ينفتح من جهاتنا كافة، وفي أعلى أعلاه: مخصص لذبح الكرد حصراً !

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

خالد حسو إن مسيرة الشعب الكوردي هي مسيرة نضال طويلة ومستمرة، لم تتوقف يومًا رغم الظروف الصعبة والتحديات المتراكمة، لأنها تنبع من إرادة راسخة ووعي عميق بحقوق مشروعة طال السعي إليها. ولا يمكن لهذه المسيرة أن تبلغ غايتها إلا بتحقيق الحرية الكاملة وترسيخ مبادئ العدالة والمساواة بين جميع أفراد المجتمع، بعيدًا عن أي شكل من أشكال التمييز القومي أو الديني…

مسلم شيخ حسن – كوباني يصادف الثامن من كانون الأول لحظة فارقة في التاريخ السوري الحديث. ففي مثل هذا اليوم قبل اثني عشر شهرًا انهار حكم عائلة الأسد بعد أربعة وخمسين عاماً من الدكتاتورية التي أثقلت كاهل البلاد ودفعت الشعب السوري إلى عقود من القمع والحرمان وانتهاك الحقوق الأساسية. كان سقوط النظام حدثاً انتظره السوريون لعقود إذ تحولت سوريا…

زينه عبدي ما يقارب عاماً كاملاً على سقوط النظام، لاتزال سوريا، في ظل مرحلتها الانتقالية الجديدة، تعيش واحدة من أشد المراحل السياسية تعقيداً. فالمشهد الحالي مضطرب بين مساع إعادة بناء سوريا الجديدة كدولة حقيقية من جهة والفراغ المرافق للسلطة الانتقالية من جهة أخرى، في حين، وبذات الوقت، تتصارع بعض القوى المحلية والإقليمية والدولية للمشاركة في تخطيط ورسم ملامح المرحلة المقبلة…

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…