إبراهيم محمود
عبدالحميد درويش: اسم لا يحتاج إلى تعريف. لكَم عُرِف آخرون من خلاله. لكم عرَّف آخرون أنفسهم باسمه. وها هو يودّع حياة امتدت لمدة ثلاثة وثمانين عامة ” 1936-2019 “. الرمز السياسي الكردي السوري،أحد أبرز مؤسسي أول حزب كردي في سوريا ” 1957 “، الشاهد على أكثر من ثلاثة أرباع قرن. رجل عرفتُه طويلاً. رجل، أكتب عنه، وأتأسف لرحيله الأبدي. رغم وجود قطيعة بيننا منذ سنوات. والقطيعة لا تعني نفي الآخر كلياً.
عبدالحميد درويش، الرجل المركَّب بالمناورات، والذي كان يتقن فنون مشي كثيرة، مع جهات كثيرة، مع رفاق حزبه، ومع ممثلي أحزاب أخرى، مع النظام، ومع المعارضة.
كان لديه ” معدة سياسية ” لافتة، قل نظيرها لدى آخرين، في طحن ” الحجر القاسي ” و” ما يسهل هضمه ” معاً . الجامع بين الأسود والأبيض. ملتقى الوداعة وتحيُّن الفرص. المسالم والمتربص، الآغا ابن الآغا، والمعرّف بنفسه كردياً كغيره. الديمقراطي التقدمي ” وهذا هو اسم حزبه ” والمتجاوز لمفهوم حزبه، بصفته الآغا الذي يطاع، والذي يصغى إليه، والذي يقيّم، ويحد، أكثر مما يسمع غيره، يشاوره، يأخذ برأي سواه، يرتاح لمن ينتقده، يتعلم من أخطائه، ينسى أنه الآغا الذي يعلو الخطأ.
وإذ أقول ذلك، فليس طعناً فيه، إنما ما كان يعرَف به. وإذ أحدد صيَغ كلماتي بطريقتي هذه، فلأنني أتحدث عن رجل كان، ما كان يحَب فيه، وينشد إليه، بروح مضيافة، وكيف يكون بالمقابل، وأنه في نطاق هذه ” السياسة ” يتبلبل وعي المتابع والمتعامل مع ” سياسة حزبه ” ويتأسف لمسارها .
أن أكتب عن هذا الرجل، فلأنه ما كان يفتقر إلى الرجولة، إن دققنا في مفهوم ” الرجولة ” بمعان شتى، ما كان منعزلاً عما يجري، في مرونته اللافتة، حتى مع أعتى خصومه، بغض النظر عن مراتبهم، وفي تشدده الذي لا يظهره إنما يجسّده في مسلكياته. كان يتقن لغة التجارة، على مستويات عدة، رغم أن المؤسف هو أنه كان يختلط عليه الأمر، حين يدخل البازار السياسي مع أي كان، وينسى أو يتناسى أن الذي يسمّيه هو شعب بكامله، شعب مجزأ، مضطهَد، وأن تاريخاً يراقب، ويعاقِب، جرّاء ما يدوَّن باسمه هنا وهناك .
أن أكتب عن هذا الرجل، فليس لاغتنام فرصة، ليس تشفياً. إنما من باب التأسف، من باب التألم على نهاية كهذه، وما يمكن أن يكون عليه مصير ” حزبه ” وما يعنيه هذا المفرد العائد إلى الغائب، من ملْكية تمضي بنا إلى مسقط رأسه ” قرمانه qeremanê ” أو في عداد الملّكية ” طبعاً من الصعب أن تجد الآخرين في الزعامة السياسية، بعيدين عن هذه الصفة “، ما يعنيه هذا اليتم/ التيتم، من عائد مأساوي يستشرف بنا تاريخ الحركة السياسية الكردية في سوريا إجمالاً، كما لو أنها تخلص لفجائعها، وودائع التنكبات والعثرات وليس النهوض والاستنهاض.
عبدالحميد درويش، لا أبكيك أبداً، ليس استخفافاً، إنما تأسياً على رحيلك بالطريقة هذه، إنما لأنني أحاول تخيلك، استرجاع مشاهد من حياتك، حين كنت ألتقيك في أمكنة مختلفة، وأنت تبتسم، وأنت تتكلم بصوت هادىء، وكأن به جرحاً يمنعه من الاسترسال. وأنت تنظر هنا وهناك، حيث يتنوع الذين تتعامل معهم.
خلَّفت وراءك أحباباً وأصحاباً، خصوماً وأعداء, سيختلف عليك أصحابك وخصومك، سيقال فيك: موقعاً شخصياً وسياسياً، وككردي لا يمكن تجاهله، من زوايا شتى. سيختلط الاحترام والتأسف في رحيلك .
الأسف الذي أبديه هنا، واحد وحيد أوحد: لكم كنت أتمنى أن أسمع صوتك من بعيد، أو بطريقة ما،على وقْع القطيعة التي حصلت بيننا: لنعتبر كأن شيئاً لم يكن . كنتَ قادراً على ذلك ، كما فعلتَها مع كثيرين: أشخاصاً وأطرافاً سياسية، وهنا لم تفعلها. هنا السؤال يبقى عالقاً معلقاً. ويبقى الرحيل مرّاً رغم كل شيء،يبقى احترامي لك محفوظاً، رغم كل شيء .
ليلطف بك موتك. وليسلم رفاقك حزبك مما هو متخوَف منه. ألا يتعرَّف بهم يتامى، حيث كنت الأب القطعي….!