إبراهيم اليوسف
لم يتهيأ لمدينة ما في العصر الحديث- بحسب- رؤيتي أن استطاع أهلوها، وهم من ملل ونحل شتى، أن استطاعوا تحويلها إلى لوحة فسيسفسائية بديعة من خلال خصوصية علاقاتهم مع بعضهم بعضاً، ومنهم: الكردي و العربي كما ومنهم اليهودي و السرياني المسيحي والأرمني والآشوري والمسلم وسواهم، إذ كثيراً ما كان يخيل إلي أن هذه المدينة، بأحيائها، وبيوتاتها، ليست إلا عبارة عن بيت واحد كبير، ولعل معيار معرفة ابن المدينة لها لا يظهر، تماماً، في شكله الحقيقي، وهم يتواصلون في ما بين بعضهم، على نحو يومي في العمل والمدرسة والمقهى والمطعم والشارع، بالرغم من الحدود المصطنعة التي رسمها النظام بين الناس، في محاولة استعداء بعضهم على بعض، وتقديم الكردي- في لحظة علنه- على أنه العدو،
ولا يمكن تصور هذه المدينة، من دون استذكار أدوار أبنائها هؤلاء جميعاً. كل بحسب ما قدم، عبر حرفته، أو صنعته، أو مهنته، أو حضوره الروحي، ولطالما استطاع حكماء هذه المدينة. وجوهها. رجال دينها. سياسيوها مواجهة بعض ما كان يستجد من خلافات- نادرة- عابرة، من شأنها أن تتم في إطار البيت الواحد، وإن كان هناك من يسعى لصب الزيت على النار، إن لم تشكل فعلته هذه خطراً على سلطته!
ما إن يقل لي مسيحي، كابن لهذه المدينة مفتوحة الأبواب: أنا من قامشلي، وهكذا بالنسبة للعربي أو الأرمني أو الآشوري أو الكردي أو ما إن يذكر اسم يهودي ما، حتى سرعان ما يحدث لي شخصياً، وبالرغم من كل مسافات الجغرافيا، وأبعاد الزمن، أن تستنفر حواسي كلها في حضرة رنين الاسم: قامشلي، في تهجئة إلهية أرضية، أو كما تلفظ- في حدود السمت المباشر- في لهجات جميعنا، قبل أن يحاول أحدنا استلابها، واعتبارها: مكانه وحده، فحسب، وما غيره إلا ضيوف هذه المدينة التي روى لنا الجيل السابق علينا: كيف أنها بنيت: لبنة لبنة. نقطة عرق فأخرى، وما البيوت الأولى التي سكنتها، ومن هم ذووها، وهو ما اهتممت به في حلقات متسلسلة نشرت في جريدة-خه بات- بعد أن أعددتها استطلاعاً لمجلة العربي الكويتية في أول التسعينيات، بتكليف من إدارتها، ومن دون أن تنشر، ولا أتذكر أن أحداً قد كتب عنها في تلك المرحلة، بعد أن وضع أحد أبنائها كتابها الأول، في خمسينيات أو ستينيات القرن الماضي.
قد يستكثر علينا بعض أهلنا في الداخل- وهم غير ملامين- لاسيما ممن هم من عيار من قالوا لكل من ابتعد عنها أو أبعد: لن نقبل جيفاتكم، إن متتم، لتدفن في مكان لا علاقة لكم، وهي مقولة لا تصمد أمام أية قهقهة، ليس هنا مقامها، بل ولا تصمد على طاولة الحوار، بل النقاش، أو حتى الدردشة في أدنى مراتبها، لأن لا أحد له الحق في إطلاق هذا الادعاء. إنها مدينتنا جميعاً، ولعلي من هؤلاء الذين كتبوا عن همومها عقوداً، على حساب مشروعي الأدبي، بما كان يفتح علي باب الغضب، وعلى حساب لقمة أسرتي
ثمة ما أقوله-هنا- وهو أنني كنت في المكتب الإعلامي المنطقي للحزب الشيوعي السوري، وهكذا المركزي، مع جنود مجهولين معلومين آخرين، وقد تفاجأت ومن معي- ذات مرة- بأن ممثلنا في الإدارة المحلية يقول:
إن لم يتوقف فلان عن حدة كتاباته في ريبورتاجاته ونقده المنشورين في صحافتنا، فلا تطلبوا مني أن أتبنى أية قضية في اجتماعات الإدارة المحلية، أمام المحافظ، وهي العبارة التي رددها من جاء بعده أيضاً، ولربما بدبلوماسية أقل، في دورة لاحقة، وإن كانت- وللتاريخ- لاتشبه نبض الشيوعيين الحقيقي، وقواعدهم الواسعة.
هذه مدينتنا. هذه قامشلو. التي نعيش- ضمنها أو بعيدا؟ً عنها- على إيقاع اسمها، وعلى ملامح وجوه أهلها. على ذكرياتنا فيها. قامشلو . قامشلي. القامشلي. القامشلية- كما قال ذلك الشيخ معشوق ذلك، ذات مرة، بعيد انتفاضة آذار2004، وهو يحاول المساهمة في رفع الحصار، في حفل اجتماعي لأسرته، استضاف خلاله وجوهاً من المكونات كلها، وكان من بينهم: نجل مفتي الجمهورية كفتارو رحمه الله وصهرهم د. محمد حبش وآخرون ممن تمت دعوتهم من العاصمة إلى جانب آخرين!
اليوم صباحاً، صديقة إعلامية، كانت تقود سيارتها برفقة قريب لها، وهي تكلمني عبر الواتس، فانقطع الاتصال ما بيننا، وخيل إلي أن الأمر عادي، لأن اتصالات الواتس- أو الاتصالات المجانية على نحو خاص- كثيراً ما تكون رديئة، وتفاجأت بعد قليل تهتف إلي معتذرة، لتقول:
مررنا، من حاجز المطار، فاستوقفنا حاجز – للرفاق- أي ل” ب ي د” ومن ثم آخر للنظام، وقاطعتها فوراً: النظام، فقالت أجل، وبين الحاجزين ما يقارب مئة متر فقط، فهم موجودون لحماية الروس، ثم قالت بحرقة:
تصور، ثمة أعلام ثلاثة متجاورة: علم ” الآبوجيين”. علم النظام. علم الروس، وقالت: بات لزاماً علينا أن نتعلم الروسية، والإنكليزية، والإيرانية، ثم توقف الاتصال.
بعد ذلك، بحوالي الساعتين، قرأت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بأن ثمة انفجاراً تم في مركز في المدينة، من خلال أكثر من مركبة مفخخة، ولربما من خلال مركبتين و دراجة -نارية- وتم بسببها حرق تسعة محال، في وسط المدينة، واستشهد بضعة أشخاص- ولربما الرقم في صعود- كما أن عدد الجرحى بلغ الأربعين، ولقد استنفرت الطواقم الطبية الإسعافية، وأجهزة الإطفاء، للنبش عن بقايا أشلاء بعض الضحايا، كما أن هناك مفقودين، وثمة بلبلة كبرى تمت في المدينة، وهناك ثلاثة جرحى بإصابات محرجة تم نقلهم إلى إقليم كردستان، شفاهم الله جميعاً.
مؤكد، أن تفجيراً إرهابياً، في مركز المدينة، في اليوم نفسه الذي أعلن فيه عن اغتيال رجل دين أرمني وأبيه، أو نجله، وهما في طريقهما من الحسكة إلى ديرالزور، فإنه يستهدف جميع أهل المدينة. جميع مكوناتها، وإن كان المقصود بالعملية” ب ي د” إذ تم استهداف حواجز له، ومن بين الضحايا: شرطة السير “الترافيك” التابعين للإدارة الذاتية.
حول التفجير الإرهابي:
يعد هذا التفجير الثالث، منذ اجتياح تركيا للمناطق الكردية، إذ تم أولها في شارع منير حبيب في قامشلي، وثانيها قرب بريد الحي الغربي، ويأتي تفجير مركز المدينة الثالث ترتيباً، وفي هذا دلالات مفتوحة، بل إشارات، ليس من شأن أمثالي التقاطها، بل طرحها-فحسب- إلا أن هذا العمل الإرهابي هز المدينة، وهو في إطار: استهداف الكرد، لامحالة.
ومن أبرز ما لفت نظري: أن مراسلة إحدى القنوات التلفزيونية الكردية “رووداو” سألت أحد المواطنين، أمام باب أحد المستشفيات- ويبدو أنه كان كاتباً، قائلة: هل لك جرحى في المشفى؟ فأجاب: لا، لكنني أنا جريح، وراح يتحدث عن تفجير- الحي الغربي- العام2016 الذي راح ضحيته ما يقارب المئة شهيداً، إلا أنه لم يتم عقاب أحد ممن تم اعتقالهم، وبالرغم من أنني لم أعرف الكاتب، إلا أنه أشار إلى جريمة تهدم منزل بيت حميه، والمكون من طابقين فوق رؤوس أهله، ما أدى إلى استشهاد تسعة عشر شخصاً!
إن النظام السوري- يلهث- لأن تعود المنطقة إلى قبضته، معتمداً على—بلطجيه الروسي- وهو ما أدى إلى خلط الأوراق، وفتح أبواب المدينة- التي كانت تعيش في أمان بالرغم من وجود عناصر قَنْبَلَتِها – نتيجة التحشيد الذي يتم ضد الكرد، إلا أن قامشلي- وهي هنا رمز التعايش المشترك- لا يمكن أن تكون إلا لجميع مكوناتها، ومن خلال حوار بعيد عن تأثيرات جميع الاحتلالات، بما في ذلك النظام الذي هو رأس تراجيديانا السورية كلها، وهو من فتح أبواب البلاد لكل القتلة واللصوص، من خلال
يتبع…!