رحلت دون وداع و تركتني وحيدة الى روح أبي ( ملا إبراهيم كرباوي) في يوم اربعينيته

 بيوار إبراهيم
الأعمار تسقط مع رياح الزمن و الموت حق جاحد على قلوب تتسول القليل من الوقت كي تزرع بذور عدة آمال و أحلام في تراب تبكي عليها بعد رحيلها.
كان لي عمر غير عمري إسمه كوردياً( يابو) و عربياً أبي و لأن أبي كان قومياً كوردياً يبقى اسم عمري ذاك (يابو). غادرني هذا العمر بصمت دون وجع و دون ألم و دون صراخ. صراخه الوحيد كان الحنين لرؤية أخوتي الثلاث الذين نفاهم الحرب الى بيروت و هولير و النروج الى جانب ذلك الحنين, كان يعد الأيام و الساعات منذ أول أيام السنة ليدفئ ذاكرته بالذكرى السنوية الثالثة لرحيل أخي الذي سرقه منا المرض في قلب آذارٍ ما. أخي البكر الذي سماه أبي بإسمٍ كوردي
( خورشيد) في أوائل الستينات حيث كان الكوردايتي خط أحمر و كان إيواء المناضلين الكورد مقصلة, لكن منزل أبي كان لهم مأوى و مخبأ لأنه إعتبر منزله بيت الكورد و الكوردايتي. الجرأة كانت له هواية و الكوردايتي غاية و التجارة وسيلة مهملة لكسب المزيد من أجل الغاية, ذلك كان أبي.
جابه كل من إختلف معهم في الرأي و صادقهم في نفس الوقت لأن هدفه الأسمى كان الوصول الى حق مشروع كونه كوردياً. ولد في تركيا لكنه آثر سوريا على كل الأوطان و فضل العيش مع عائلته الصغيرة فيها على العيش مع عائلته الكبيرة  هناك. عشق قامشلو و الشام و حلب لكن عشقه الأكبر كان لقريته كرباوي التي بكاها ألماً حين غادرناها بسبب ظروف الحرب و بسبب الإختلافات السياسية. إعتز و إفتخر بكورديته السورية و ناضل من أجلها قدر 
 
والدي و الأميرة سينم خان جلادت بدرخان
يابو, وجودك كان لي رحمة بعد رحمة رب العالمين, كان سنداً و معيناً, كان حياة بأكملها حتى لو كنت قد تعديت الخامسة و التسعين من العمر. كنت لي قلاع محصنة يهابه الخوف و لا يفكر في الاٌقتراب منها كنت ظهراً لا ينكسر و لا يهتز كنت رجلاً تفرض مهابتك و إحترامك على كل من حولك و خاصة مع من إختلفوا معك في الرأي. فقدانك قتل الأمان و هدم القلاع و تركني وحيدة في غابات الذئاب. فقدانك قتلني و ما زاد من قتلي استياء البعض من دموعي التي خجلت من الدم المراق للشهداء في الجبهات و باتت تهطل في زوايا باردة و مظلمة. هم لم و لن يعرفوا ماذا كنت لي و ماذا فعل رحيلك بي؟ رحيلك الذي زرع حزناً عميقاً في أعماقي, حزناً لن يذبل إلا بذبول أنفاسي؟ كيف لي بالصبر على عمري الذي يمضي و هو خالي من رائحتك و لمس أصابعك التي دفئت أصابعي الباردة دوماً؟ ذاك هو أبي.
 يابو, سنحاول قدر الإمكان البقاء هنا. هذه الهنا التي زرعتك و زرعتنا معك هنا. هنا (قامشلوكا ته و كرباويا ته) كوردياً. القرية و المدينة التي عشقتهما معاً كان قلبك كريماً و رحيماً و معطياً لتعطي كل شيء حقه. 
مع الراحل الشاعر الكبير( سيداي تيريج – Tîrêj) و أخي محمود
في هذه الحرب المستعصية و التي تأبى الرحيل, المضي في دربك و الحفاظ على وصاياك أمرٌ أصعب من كل صعب. في هذه المرحلة السير في دربك  درب القومية  الكوردية الذي سلكته و جعلتنا نسلكه معك كالسير على دروب من نار و النهج الذي احتضنته نهج البارزاني الخالد و جعلتنا نحتضنه معك كالجمار المتقدة , جمار الحرب و الفقر و النفي و التشرد و جما كل ما خلق من ظلم ٍ في هذه الحياة نبتلعها بإيمان قوي و بأمل جامح أن هذه الجمار ستصبح يوماً ما شمساً لحرية وطن لأنه النهج الوحيد الذي بقى صابراً و مستبسلاً يطالب بدولة كوردية مستقلة. قلَ ما رأيتك تبكي يا أبي, حتى و أنت  تتعدى أبواب الخامسة و التسعين لم يصبك مرض بكاء الكبر على العكس كنت تساعدنا على الصبر و التحمل و عدم البكاء في أي ظرف مهما كان قاسياً لأن البكاء يكسر صاحبه. في أفراح إستفتاء استقلال إقليم كوردستان رأيتك تبكي فرحاً لأنك رأيت على الأقل بادرة أمل حقيقة لا زالت تطالب بحق مشروع لنا في هذا الكون. ذاك هو أبي. 
يابو, بعد رحيلك أدركت أن هناك بكاء يخرج كل عويل صمد و كل دمعة أبت الهطول و كل صراخ صارع الصوت. أعلم أن قلبك أبر من البر و ظلك أقوى من الظل و أنك وحدك سمعت صراخ عويلي ,قلة قليلة شعرت بي و فسحت لي أمكنة تحتضنني و  تهدهد مواويل جرحي و نواح صمتي. أنت الذي مسكت بيد طفلتك و أخذتها الى مجالس كانت شبه ممنوعة على النساء ثبت أقدامي على خطاك و ثبت أصابعي على حمل القلم و مضيت بي الى عوالم لم أكن أحلم بها. أنت الذي صنعتني و بنيتني, كنت أعانقك صوتاً و صدى , قلباً و جسداً كنت أحيا بك و أكتب بك و أكبر بك و أنمو بك.  جعلت من شتلة في مهب الريح غابات لا تهاب الأعاصير و من غرفة طينية فوق بيادر قرية نائية قلاع تتصدى كل هجوم. أنت الذي قلمت أظافر إنوثتي و زرعت مكانها مخالب الرجولة لتجعل مني وطناً مصغراً يكتب بالكوردية و  يجعل من هذا الوطن شرياناً يكتمل بها الحياة المصغرة لحلمٍ إسمه وطن.  
يابو, كنت تأكد لنا إن الإنسان الذي يفقد الأخلاق فإنه يفقد كل شيء, بسلطتك الصارمة روضت غرائزنا بالدين و هذبت أخلاقنا بالتربية. عندما أخبرتك أنني طبعت أولى رواياتي بلغتي الكوردية و هي الرواية الأولى باللغة الكوردية الأبجدية اللاتينية بقلم أنثى في تاريخ الكورد السوريين,  حمدت رب العالمين و شكرته و معها غضبت مني لأن المضمون كان عن أحوال المجتمع في إقليم كوردستان و هذه البقعة من العالم هي بالنسبة لك و لنا بقعة مقدسة لأنها أنجبت للكورد عائلة البارزاني الخالد. عندما أخبرتك عن الهدف  للكتابة عن المجتمع في تلك البقعة المقدسة كوردياً- بالنسبة لنا- و أن الحفاظ على تلك البقعة من الكون يكمن في نقد الأخطاء و تسليط الضوء على الزوايا المظلمة هناك.  قبلت جبيني و ضحكت ملئ قلبك وقلت: لكنهم قد يفهموا العكس. حينها قلت لك( إنما الأعمال بالنيات) و لأن تلك البقعة عاجلاً أم آجلاً ستبصح لنا وطن لا بد أن ننتقد و بصوت عالي دون مجاملة ,ألم يقل البارزاني الخالد(إذا لم تخدم وطنك على الأقل لا تخنه) و أنا إذا بقيت صامتة لا أكتب حينها لاصطفيت مع الخائنين و أنت ربيتني على الوفاء. قلت لي, لكني متأكد أنك ستخسرين. حضنتك بقوة و قلت لك  كل خسائري تهون أمام كسبي لك و لرضا رب العالمين و رضاك. ذاك هو أبي. 
يابو, الموت أقرب إلينا من طرف العين, إنه موجود بيننا و يعيش معنا هو لا يقترب لأننا نكبر و لا يبتعد لأننا ما زلنا في ريعان الشباب هو يحضر و يأخذ هدفه منا دون علم أو إستئذان. 
كلما سألوني من أنت و إلى من تنتمين؟ ما هي عشيرتك و عائلتك و أصلك أقول لهم فقط كلمة ( أبي). أنا ابنتك التي إختبأت في ملجأ حضنك و أحتمت بظهرك و تسندت بسندك و ركضت برجلك و مسكت طرف ثوبك خوفاً من أن تتعثر.  أنت فقط من جمعت الصخور من دربها و جعلت منها سلالم مرتكزة للوصول الى مبتغاها. يقولون( إذا مات أخاك إنكسرت يمناك) و أنا أزيد عليهم بملئ جرحي و إذا مات أباك تحطمت دنياك. أنا الآن بلا دنيا يا أبي و من أربعة أيمن بقي ثلاث و ثلاثتهم منفيون و ليسوا هنا. هنا التي إحتضن ثراها جسدك و روحك معاً . لم أخن الأمانة يوماً لكن الدموع هي التي تخونني من وقت لوقت و أنت الذي كرهت البكاء. غبت و غاب معك كل زمن أصيل و جميل. سيبقى صدى رحيلك جرح يمزقني دون أن يشعر بي أحد إلا القلة. أنا التي خنتها و رحلت دون وداع, أنا التي صاحبتك طول المسير. كنت صاحبي أيها الصاحب في وقت إنقرض فيها كل صاحب. أنفاس عمري بدون وجود صوتك خناجر قاتلة تطعن جسدي, لكننا عاجلاً أم آجلاً سنلحق بك هناك و لا نملك شيء سوى الإبتهال الى رب العالمين كي يرزقنا اللقاء من جديد.
اللهم إرحم كل روح مؤمنة و منها روح أبي و أخي الذين تراهم و لا نراهم و إجعلهم مطمئنين في منازلهم هناك و أضأها لهم. اللهم أقبلهم من الصالحين و أورثهم جنات النعيم يا أرحم الراحمين.
14-03-2019
 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اعتبر الزعيم الكوردي رئيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني مسعود بارزاني، يوم الجمعة، أن الارضية باتت مهيأة لإجراء عملية سلام شامل في منطقة الشرق الأوسط للقضية الكوردية. جاء ذلك في كلمة ألقاها خلال انطلاق أعمال منتدى (السلام والأمن في الشرق الأوسط – MEPS 2024) في الجامعة الأمريكية في دهوك. وقال بارزاني، في كلمته إنه “في اقليم كوردستان، جرت الانتخابات رغم التوقعات التي…

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…