د. محمود عباس
من الطبيعي أن تحرك الإمبراطورية الأمريكية، كأية إمبراطورية في التاريخ، معظم أدواتها، وتستخدم جل إمكانياتها ضد أية دولة تهدد مصالحها، وذلك حسب مكانة تلك الدولة. ففي مسيرة الصراع المتفاقم في منطقة الشرق الأوسط، تجاوزت إيران كل الخطوط المسموحة، وتعرضت بشكل مباشر لمصالح الإمبراطورية وأصبحت تهدد بشكل يومي حليفتها الأهم إسرائيل، ومحمياتها من دول الخليج، وكرد فعل على هذه التجاوزات صعدت من حصارها الاقتصادي على صادراتها إلى الحدود المدمرة لدخلها القومي، وبالتالي لأدواتها في المنطقة، وذلك من خلال تهديد كل من يستورد نفطها وغازها، أو كما ذكرها وزير خارجية الإمبراطورية (مايك بومبيو) ” إما تتعاملون معنا أو ضدنا مع إيران” ومن جهة أخرى بدأت بنشاط دبلوماسي وتحشدات عسكرية واسعة، علما أن معظم المراقبين الدوليين يرجحون إنهاء الأزمة بطرق دبلوماسية مع استمرارية جزء من الحصار، واستبعاد نشوب الحرب أو هجوم أمريكي على غرار سيناريو العراق.
والكرد رغم أنهم الحلقة الأضعف ضمن الإستراتيجية الأمريكية في هذا الصراع، لكن المتوقع أن يكونوا ذات فعالية في حال إذا استمرت المواجهة، ولا شك هنا لا نتحدث فقط عنهم في الداخل الإيراني، كما لمح إليها الوزير ذاته قائلا: أن الكرد في إيران أكثر عددا من كرد العراق وسوريا معاً. وحذرها الرئيس دونالد ترمب بدوره وبلهجة شديدة في توتيره البارحة، قائلا ” إذا أرادت إيران القتال فستكون النهاية الرسمية لها، لا تهددوا الولايات المتحدة مرة أخرى أبداً” فسرها البعض من المحللين الاستراتيجيين، أنه يعني تقسيم إيران حسب القوميات المتواجدة في جغرافيتها، وفي مقدمتهم الكرد، والتحريك الأمريكي لهم لن تنحصر في الجغرافية الإيرانية، بل ستتضمن القوى في جنوب وغربي كردستان، أي العراق وسوريا، والأخيرة بشكل خاص، أي لربما نحن أمام تطورات نوعية في سوريا وشرقي الفرات بشكل خاص، وقضية المنطقة الأمنة الكردية المؤجلة والضبابية حتى اللحظة.
لا شك أن دول الخليج وعلى رأسهم السعودية قبل إسرائيل أكثر من يحرك هذا الصراع، ويدفع بلوبيها في أمريكا لتصعيد ضغوطاتها الاقتصادية، وخاصة على مبيعاتها من النفط والتي بلغت ما دون المليون برميل يوميا مع المباع في الأسواق السوداء والتي عادة أسعارها متدنية، بعدما كان قد حدد لها تصدير النصف من حصتها المسموح لها في الحالات العادية ضمن منظمة أوبك، وهي بحدود المليونين وثمانمائة ألف برميل يومياً، وأستمر سقف إنتاجها المتفق عليه ضمن المنظمة المذكورة ما بين عامي 2012-2015م إلى قرابة المليون والنصف برميل يوميا، إي قبل الاتفاقية النووية بينها وبين أمريكا في عهد الرئيس براك أوباما، وتصاعد الإنتاج والتصدير بعد الاتفاقية لتقترب من السقف الدولي المسموح، إلى المرحلة التي سحب فيها الرئيس الجديد دونالد ترمب أمريكا من الاتفاقية، وطالب بإعادة النظر فيها، وعلى أثرها جدد الحصار وصعده إلى مستويات أعلى بكثير مما كان قبل الاتفاقية، وحدد سقف الاستيراد للدول المتعاملة معها وبمرحلة زمنية لا تتجاوز نصف السنة، وهذا ما حصل حتى أذار الماضي، فالصين حصلت على قرابة 600 ألف برميل، وكوريا الجنوبية على 380 ألف برميل، والهند قرابة 260 ألف برميل، واليابان بحدود 200 ألف برميل، وتركيا 97 ألف برميل، إلى جانب 226 ألف برميل لم يحدد هوية المشتري، وتدرج عادة ضمن مبيعات السوق السوداء.
فالولايات المتحدة ومنذ الشهور الأولى لرئاسة دونالد ترمب، بدأت بالطعن في اتفاقية عام 2015م النووية، والمعروفة باتفاقية (5+1) (الولايات المتحدة ، وروسيا، والصين، وفرنسا، وبريطانيا، بالإضافة إلى ألمانيا) وعلى أثرها حاولت قبل شهور تحديد سقف صادراتها النفطية، مصرحة أنها تهدف إلى تحجيمها لأدنى مستوياتها ليس فقط بحدود النصف مليون برميل يوميا كما صرحت به موقع بلومبرغ الأمريكي بل إلى الصفر، ومن جهة أخرى التحكم في مدخول الصادرات الجارية والذي سيكون على شكل مقايضة، مصاريف للأغذية والمواد المعيشية الضرورية، أي ما يسمى عادة بالترتيبات غير النقدية، رغم إدراكها لصعوبة تحقيق مثل هذا الأمر وخاصة مع دول مستوردة مثل الصين والهند، وللنتائج الوخيمة الناجمة عنها، ومنها انعكاسها على أسعار النفط العالمية.
مع ذلك ولتنفيذ الخطة، حذرت أمريكا العالم قبل سنة بعدم شراء نفطها، خاصة بعد مرور 180 يوما المستثنية فيها ثمان دول كبرى منها الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية وتركيا، مع تحديد كميات الشراء، وقد أعلن وزير خارجيتها مايك بومبيو في الأسبوع الماضي عن بدء مرحلة الحظر التام وانتهاء المدة المسموحة للشراء وهي 2 أيار.
هذه الإستراتيجية (التي تقف وراءها إسرائيل ودول الخليج، إلى درجة يهمس فيما وراء الكواليس أن قرار الحرب أو عدمه بيد بنيامين نتنياهو) هي التي تتوقعها أمريكا أن تجبر سلطة أئمة ولاية الفقيه على تعديل الاتفاقية النووية، أو تجفيف مخزونها النقدي من العملة الصعبة، والتي ستحد فيما بعد: من تطويرها لمشاريعها النووية العسكرية، وتهديداتها لدول الجوار عن طريق أدواتها، وهيمنتها على المنطقة، وإضعافها ليس فقط من الداخل كنظام، بل في الأبعاد الجغرافية: الداخلية، كدولة تحتضن عدة قوميات. وخارجية، تتحكم بمناطق عديدة، بدءا من أفغانستان إلى اليمن ولبنان وسوريا، وحتى المغرب والتي أدت قبل سنتين إلى امتعاض الملكية في المغرب من تدخلاتها، وبلغت درجة توجيه التهديدات…
يتبع…
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
22/5/2019م