إذا كان المثل يقول: إنّ الحروب تصقل الشعوب، فإنّ الواقع قد لا يوافق الأمثال المطلقة أو المعروفة في كلّ الأزمنة، لأنّ بعض الشعوب لكثرة ما تصقلها الحروب فإنّها توشك أن تشفّف (أي تصبح شفّافة).
صحيح أنّها لا تنمحي من كثرة الصقل الإجباريّ أو الانصقال ذاتيّاً أحياناً وفي بعض الظروف المدفوع إليها دفعاً، وصحيح أنّها لا تنمسح من الخارطة أو تنخسف بها الأرض، لكنّها ستبقى تعاني ممّا يلحق بها من أذى وإجرام ..
ينقشع الضباب وتتبدّد الغيوم وينكشف السراب بالنسبة للشعوب التي قد تضاع في الحروب التي تزيل كلّ الصدأ عن النفوس المجلوّة، فتتآلف تلك النفوس بعد محاربة واحتراب، تتآخى بعد الاستعداء الذي يتخلّل كلّ مؤاخاة، حيث كلّ ظرفٍ يفرض تحالف طرف مع آخر، ومخاصمته مَن كان بالأمس حليفاً..
للسلم أحواله، وللحرب أحواله..
وللا سلم واللا حرب أحوالهما أيضاً..
والحديث كلّه يدور عن لبنان، عن لبنان السلم الذي يباد، عن لبنان الذي لا يستحقّ كلّ ما يلاقيه من ويلات وكوارث، عن لبنان المغامر عند البعض من المجرِّمين، عن لبنان الفادي المضحّي عند البعض القليل، حيث شعائر التكفير من جهة، ومن جهة أخرى تقابلها شعائر التطهير والتقديس..
وفي الحالين يكون لبنان، لبنان الشهيد الشاهد على التاريخ قبل أن يمحَى من التاريخ ومعه من الجغرافيا التي ترضخ لحكم وشريعة وقانون اللاقانون..
لبنان إذاً بمعونة بعض إخوته العرب ومعاونتهم، من بعض المباركين الاجتياح بالصمت عليه ومحاولات تبريره، هؤلاء الذين يتهرّبون من قول كلمة حقٍّ في وجه سلطانٍ جائرٍ لأنّ كلّ واحدٍ منهم هو الجائر بعينه، ولا يريد أن يختطّ خطّاً قد يسلكه من بعده أحد من أفراد (شعبـ: ـه)..
لبنان..
يضحَّى به، يُدفَع به إلى المقصلة عقاباً له على جنايته (في شرع اللاشرع) التي يعيد اقترافها في كلّ لحظة، وإثمه الذي يرتكبه في كلّ لحظة أيضاً، وكأنّه يبحث أو يدور في دائرة قد أُغلقت عليه، والسؤال الذي سيتبادر إلى الذهن ممّن قد أُغلقت..
؟ ليكون الجواب البسيط العفويّ: ممّن يعدون هنا وهناك بمساعدته على الخروج من محنته وتقديم العون كلّه إليه، مع العلم أنّهم شركاء في الجريمة المستمرّة التي ترتكب في حقّ الشعب اللبنانيّ الذي سما على الطوائفيّة الحرابيّة التي يتميّز بها والتي يراد لها أن تبقى تسمه بميسمها الذي لا يتوسَّم فيه أيّ خير أو يرتَجى..
العدوّ، أيّ عدوّ، هو الذي لا يتغيّر ولا يتبدّل لأنّ قانون العداوة لا يطاله التغيّر، وهو الذي يبيح لنفسه بحكم العداوة كلّ شيء في سبيل القضاء على عدوّه، مردّداً كلّ حينٍ: في الحبّ والحرب كلّ شيء عدل..
كأنّي بالحبّ حين يعطف في الجملة نفسها مع الحرب يتساوى معه عطفاً ومعطوفاً ليعطيه من بعض ما عنده من حنان فيكون الحبّ صفةً لمن يحارب للقضاء على عدوّه، أو لربّما العكس، لتكون المحاربة صفةً لمن يحبّ “للقضاء” على حبيبه بالاستحواذ عليه وتملّكه..
الصديق الذي يدّعي أنّه الأخ الحريص المحافظ على شرع الأخوّة، هو الذي يضرّ بجهله أو تجاهله، حين تخلّيه عن الأخ المتروك وحيداً في مهبّ الأعاصير..
هو لبنان الذي تبكي عليه القلوب لما يؤول إليه وما يلحَق به من تخريب عامٍّ شاملٍ كاملٍ لإعادته قرناً كاملاً إلى الوراء..
وكأنّه لا يجوز أن تهبّ رياح الحرّيّة في المنطقة من لبنان البوّابة للحرّيّة والفسحة والمجال الأرحب للكلمة الحرّة..
وما يحزّ في النفس توارد الأخبار العاجلة المشؤومة المنذرة بالقتل والقصف والتدمير والإبادة..
وما يؤلم أكثر قوائم الاستنكار العربيّة العاجلة والتنديد المتسارعة والشجب الملعون..
يساعَد لبنان بالابتهالات من الشعوب وبالأناشيد من الفضائيّات، وبعض الفضائيّات العربيّة لا تكلّف نفسها الحديث عن الأوضاع المأساويّة التي تجتاح لبنان، ولا تحمّل مشاهدها عبء المناظر التي قد تجرح شعوره الذي تعوّد وعُوِّد على المناظر الجميلة التي تنسيه حتّى اسمه ونفسه..
المأساة الللبنانيّة تتعاظم ككرة الثلج، عوائل عن بكرة أبيها تباد، آلاف مؤلّفة تنزح تاركة وراءها أرضها ومالها، مؤثرة تأمين أمان لها، ولأطفالها الأبرياء، الذين لا ذنب لهم إلاّ أنّهم أبناء آبائهم الذين هم بدورهم أبناء لبنان.
لبنان اليوم يسوَّى بالأرض، ليقال بعد حين من الدهر، كان هنا قبلُ فيما مضى بلدٌ يسمَّى لبنان، صار الآن استواءً..
صار لا لبنان.
كارثة مرتحلة بين اللبنانيّين الذين لم يعد يفرَّق أيّهم مسلم أو مسيحيّ، أيّهم سنّيّ أو شيعيّ، أيّهم درزيّ أو كرديّ..
لأنّ الكلّ يقتل، الكلّ يباد، الكلّ يستغيث ولا مغيث ..
والجلّ يتفرّج، الجلّ يستنكر، الجلّ يندّد، الجلّ يتعامى، الجلّ يحمّله مسؤوليّة المغامرة المحالة مقامرة غير مدروسة..
وما يخجل، الذي هو العار بكلّ ما في العار من معنى، المواقفُ الأعيارُ التي يصرّح بها من الدول العظمى، ومن الدول السفلى الدنيا، من أنّ لبنان المقسَّم شِعباً متناحرة يجب أن يصفّي نفسه ويتحمّل كلّه وزر بعضه المتمرّد..
مَن يقتل هو الإنسان، لا فرق إن كنت متّفقاً معه في الرأي أو لا، ولكنّه الإنسان هذا الذي يجب أن يكون الأغلى حسب الشرائع والقوانين، لكن مع الأسف، كلّ الأسف، هو الأرخص حسب الواقع، هو العملة التي بها يدفَع الحساب ويصفّى.
البريء يجرَّم ويقتصّ منه على براءته.
يروَّج عن المعتدي الإسرائيليّ في الإعلام العالميّ بأنّه الضحيّة، يتحوّل المعتدي إلى مأسوف عليه، وخاصّة قد التقطت لقطة تكرَّر في كلّ مرّة، وهي لامرأة إسرائيليّة تبكي فقيدها، أمّا الضحيّة الحقيقيّ الذي هو اللبنانيّ بكلّ طوائفه، فهو الجلاّد الذي يجب أن يدفع ضريبة جلاّديّته ويجب أن يُجلَدَ حتّى الموت، ولربّما حتّى بعد الموت، ليكون عبرة لمن قد يتطاول على العظمة الإسرائيليّة المؤسطرة..
وعلى الجنون العالميّ المساند المعاضد.
لبنان يُحرق..
لبنان في أوحال المآسي يُغرق..
لبنان بحرّيّته يتلظّى ويكتوي..
لبنان وردة تذبَّل وبالمبيد ترشُّ..
لبنان واأسفي عليك..
وواأسفي علينا.