عمر كوجري
مرة أخرى نجحت السلطة السورية بجدارة ما بعدها جدارة، وبلمح البصر في قمع الاعتصام السلمي الذي تنادى إليه الطيف الكردي السياسي، والعربي بمختلف مشاربه تضامناً مع ضحايا الإحصاء الجائر الذي بموجبه جُرِّد مئات الآلاف من الكرد من جنسيتهم السورية دون ذ نب ارتكبوه سوى أنهم … كرد .
أسفلت دمشق:
كان إسفلت دمشق يتنعم بنسيم قاسيون في ذلك الصباح الذي بدأ يتهيأ لوداع محبوبه الصيف واستقبال لفحات الخريف الناعمة، لكن هذا الإسفلت المسكين استيقظ مرعوباً تحت وطء هراوات العسكر الذين طيروا النوم من جفون الليل أيضاً.
حيث فر من بين أرجلهم مذعوراً باحثاً عن كردي بلا هوية ولا جنسية ولا أي شيء في وطنه ليحضنه، ويقبل جبينه، ويزيل الغم والكرب عنه .
لقد حاول الإسفلت أن يصرخ في وجوههم ..أن يقول لهم :كفى أنتم تجرحون مشاعري أنا أخجل أن تدوسوا علي بهذا الشكل المجنون وفي هذا الصباح الباكر ،وبهذه الطريقة الرعناء،لكن الإسفلت سرعان ما تلاشى صوته ..صراخه..عويله ..وبكاؤه المر تحت وقع ضربات الأحذية الصماء التي لاتقيم وزناً لا للإسفلت ولا للطيور المهاجرة ..وللفراشات الحبلى بالشموع ..ولا للأطفال الكرد الذين يكثر عددهم يوماً إثر يوم وهم مكتوموا القيد والنفوس.
صباح دمشق:
بدوره صباح دمشق لم يرغب أن يعكر صفوه كائناً من كان ، كان هذا الصباح مبتهلاً إلى الله بأن تدوم أيام السوريين في هناءة البال ،ورغد العيش ،وقد صلى للرب ليزيل الدموع من عيون الباكين بمنديله النظيف ،ويدخل الطمأنينة إلى قلوب السوريين من كرد وعرب وآشور يين وكلدان وجاجان وأرمن وتركمان “يا الله ما أروع هذه اللوحة الفسيفسائية الباهرة” يا الله احمِ هذا البلد المتعدد الحمائم ..المتعدد الأغاني ..
المتعدد اللغات..والمتوحد في درء البلى عن بحره وجبله وطيوره وسهوله .
يا للخسارة الجسيمة صباح دمشق أيضاً أرغى وأزبد وهو يصرخ في وجه الهراوات أن : كوني برداً وسلاماً على أجساد أبنائي الكرد ..
كوني ناعمة كطيف القصائد وهي تتلوى لعشاق دمشق وما أكثرهم …وما أجملهم!!!!
لكن الهراوة لم تدخل مدرسة،ولم تتقن لغة ثانية غير لغة الضرب وسلخ اللحوم عن الأجساد ، الهراوة شعرها أشعث، وثيابها متسخة باللون الأحمر..الهراوة صماء لا روح يسري في عروقها إنها هراوة وهذا يكفيها شرفاً .
بردى دمشق:
رغم أن زمناً طويلاً قد مضى وبردى مثل الشعراء يلف حزنه وصرته ويتسكع بارداً في شوارع دمشق باحثاً عن حبيبة قد لا تأتي ..
وعن دفء وماء يُورِّدُ وجنته، لكنه في هذا الصباح تعطر،وارتدى بذلته الأنيقة وقال لي : يا عمر ، الكرد أيضاً أحبابي وهم سيزورونني بالتأكيد وخاصة القادمين من الشمال “السعيد” أنا أعرفهم جيداً هم يحبون الخير لهذا الوطن ،هم يريدون أن يشعروا أنهم فعلاً أبناء هذا الوطن ..هم يريدون أن يعود ماسلب منهم في وضح النهار ،ولهذا يا عزيزي تراني استقبلهم وأنا بكامل ورودي ..بكامل عشقي لأخفف حزنهم، وأعتصم معهم وأدعوهم هم وكل السوريين إلى مائدة الوطن الجميلة ،وأدعو من بيده القرار لرفع الظلم عنهم لأنهم أحبابي وسماري .
وفي المساء عندما ذهبت إلى بيت بردى أزوره كان يدخن بشراهة غارقاً في لجة الحزن ..
كان شارداً ..
ساهماً في بحر خيالاته وقال لي:ولكنكم كنتم رائعين لم تؤذوا أغنية ..
لم تجرحوا بنفسج الشام..
لم تدوسوا على ياسمين الشام ..
فلماذا كوفئتم بالهراوات ؟؟ ياه !! كم أخجل من شاعركم الكردي “أحمد شوقي “الذي قال عني “سلامٌ من صَبا بردى أرقُّ
ودَمعٌ لا يُكفْكِفُ يا دمشق
ياسمين دمشق:
صحيح أن حبيبي نزار قد تركني وحيداً ، وإلى هذه اللحظة لم أجد شاعراً يمكنه أن يغوص في أعماقي ويستخلص آيات الجمال والعطر من رحيقي ،ويجعلني أتعرش في الزوايا والدروب مانحاً صلاتي للعشاق وللعاشقات ..
صحيح كل ذلك لكن أتضامن مع خلاني وأهلي من الكرد وأقول لهم أهلاً بكم في بحر عطري الذي لا يعرف ولن يعرف الأفول طالما كنا حلماً واحداً ..
يداَ واحداًَ ..قلباً واحداً وابتسامة تخص شؤون الأطفال .
عودوا إلى شمالكم، واحملوا فيض حبي وفضة وجهي واطمئنوا ، فمشكلتكم محلولة وقريباً ستسمعون أخباراً طيبة …
يا ياسمين دمشق أرجو أن أصدقك فالوعود أصبحت بعدد أزهارك ..وإلى الآن هذه الأخبار الطيبة لم تأتِ ..
يا صديقي تهتكت مآقينا ونحن ننتظر..فارأف بحال أحبابك الكرد .
ولا تُطيِّبْ خاطرهم بمعسول
الكلام وإلا زعلنا منك ولن نهديك لحبيباتنا الجميلات .
يوسف دمشق:
صدقوني لقد رأيت الدموع تنهمر مدرارأً من عيني الشهيد “يوسف العظمة” في ساحته ..وقد رأيت الحزن يعض قلب ذلك الكردي الذي حمل حب دمشق بين أصابعه ،ومضى يقص حكاية دمه لكل السوريين أن: لن يمر غورو إلا على جثتي ..أنا الكردي السوري ..لن أقدر أن أصدهم أي نعم، سأقتل أي نعم.
ولكن دمائي الكردية يجب أن تزهر في هذا الوطن حباً ..ووحدة وطنية “حقيقية”
لقد سمعت يوسف العظمة يقول البارحة وبصوت كتيم يُكْلِمُه النشيج :يا إلهي !! الكرد جاؤوا ليلتحموا بهذه الأرض أكثر فأكثر..أتضربونهم بالهراوات والعصي وأنتم مدججون بهذا العدد الهائل من “البشر” لتذلوهم، وتهينوهم وأمامي ..أهذه كانت وصيتي لكم أيها الهارقون دمي ووصيتي ..ألا تخجلون من دمائي، وقد ظننت أنها أينعت وتعرشت وأصبحت لبلاباً يحيط بكل بيت في سوريا ؟؟
وفجأة رأيت تمثال الشهيد الكردي “يوسف العظمة” يصعد شيئاً فشيئاً إلى السماء التي تلبدت بالغيوم السود جراء صراخ الهراوات وضجيجها المزعج والتي عمي قلبها ولم ترَ العظمة الذي اختفى من المكان في الساحة معلناً أن ليس بمقدوره أن يفعل شيئاً لأبناء جلدته من الكرد ،وأن يجفف بحر الأسى من عيونهم وهم ينتظرون أربعيناً ونيف عن أمنية لن تتحقق …
وأخيراً قاسيون دمشق:
كان قاسيون في رحلة صيد، وعندما عاد ذلك الحكيم إلى منزله ، رأى من الشرفة المطلة على كل دمشق ..
رأى أناساً بثياب مختلفة يركضون وراء آخرين بعنف وقسوة يشبعونهم ضرباً ويصطادون من لم يقدر الفرار من بين أرجلهم ..عصيهم..
خوذاتهم..
شتائمهم البذيئة ..
عيونهم المغمضة جداً ، فتساءل مستفسراً :ما القصة؟؟
فقيل له :إنهم كرد جاؤوا من الزوايا المضيئة ..
ومن الضوء يريدون أن يعطى أوكسجين الوطن لهم أيضاً ، وصبرهم قارب أن ينفذ لطول الألم ،فتنحنح قاسيون العظيم ،وأصلح من ياقته التي عبث بها الهواء مبتسماً قليلاً .
وفي صباح اليوم التالي أصدر قاسيون فرماناً يقول:
كل من يتنفس من هواء هذه البلد هو للبلد والبلد له
أرفعوا الحيف عن الكرد ، ردوا لهم ما سلب منهم في وضح النهار
الكرد أيضاً أحبابي
الكرد أيضاً أحبابي