كفى لثقافة الخوف

الدكتور عبد الحكيم بشار

إن الخوف والشجاعة والبطولة ليس لها أرضية وراثية ، وإنما مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالبيئة التي ينشأ فيها الشخص المعني والثقافة التي تتلقاها مجموعة ما بدءاً من المنزل , فالقرية أو الحي وحتى المجتمع الأوسع , وبالنسبة لشعبنا الكردي هناك مصدران يؤثران في تشكيل هذا النمط من الثقافة :

1- السلطة – حيث تمارس القمع والاضطهاد الشامل بحق شعبنا الكردي وازدادت منذ نشوء الحركة الكردية في عام 1957 وحتى الآن حيث تعرض الآلاف من أبناء شعبنا لمختلف أشكال الملاحقة والمطاردة بدءاً من السجن لسنوات ومروراً بسحب الجنسية وإسقاط الحقوق المدنية , وانتهاء بمقتل (27) شهيداً في أحداث آذار الدامية , إن السلطة السورية كسلطة شمولية والتي تفتقر لأبسط القواعد الديمقراطية , تتعامل مع أية مطاليب مهما كانت شرعية (إذا كانت هذه المطاليب خارج أجندتها وخارج إرادتها) فإنها تواجه بالملاحقة والقمع , وقد يتهم المطالبون بها بشتى النعوت والصفات (مقاومة السلطات بحجة مواجهة أهداف الثورة والسعي إلى زعزعة الأمن والاستقرار , مطاليب مشبوهة وراءها أياد خفية , نحن في حرب مع العدو الصهيوني ؟!! وما إلى ذلك من التهم الجاهزة والتي باتت تطوق المواطن من كل حدب وصوب حتى ان المطالبة بأبسط حق من حقوق الإنسان , المطالبة بتحسين رغيف الخبز , قد يعتبر مؤامرة على الشعب والسلطة (وخطراً على أمن وسيادة البلد) إن هذا النمط من السلوك والتعامل مع المجتمع عامةً والشعب الكردي خاصةً جعل المواطن (الفرد) يعيش تحت وطأة الخوف والاعتقال والسجن وفي أحسن الأحوال الاستجواب المتكرر والتهديد والوعيد والحرمان من التوظيف إلا بموافقة الجهات المعنية , كل ذلك خلق لدى المواطن شعوراً متزايداً من الخوف من السلطة طالما أن المواطن لا يملك من العناصر التي تمكنه من مواجهة هذا السلوك ومقاومته , ولا يملك من العوامل التي تؤهله لتحمل تبعات المقاومة (مقاومة ثقافة الخوف) .

2- الحركة الكردية – إن الحركة الكردية باعتبارها الممثلة للشعب الكردي والمدافعة عن حقوقه القومية المشروعة , هي التي تشكل الطرف المقابل للسلطة في نشر الثقافة في المجتمع الكردي والعمل على توجيهه وتربيته بالأسلوب الذي تراه مناسباً فأي ثقافة عملت الحركة الكردية أو بعض أطرافها على نشرها ؟!!
قبل الإجابة على هذا السؤال لابد من الإقرار بأن هناك أكثر من ثقافة رائجة في المجتمع الكردي حالياً , وقبل الحديث عن ذلك لابد من التأكيد والإقرار أيضاً أن الحركة الكردية في سوريا نشأت في ظروف معقدة جداً , وأنها حققت إنجازات كبرى في بدايات نضالها وخلال العقود الأولى من تأسيسها حيث رسخت ثقافة الوعي القومي وعملت على تسييسها وتأطيرها ونجحت في نشرها مثل ثقافة الارتباط بالأرض وتحمل الجوع والفقر والاضطهاد من أجل ذلك والسعي للحفاظ على الثقافة الكردية العامة (من لغة وعادات وتقاليد وقيم قومية) وغيرها من العوامل التي ساهمت في حماية الشعب الكردي من الانصهار والهجرة الجماعية والانحلال في المجتمع العربي , وهذه نجاحات نعتز بها ونفخر , ولكن يجب أيضاً الإقرار بأنه إلى جانب هذه النجاحات ومنذ عقود من الزمن فإن بعض الأطراف تروج ثقافة بين أبناء شعبنا يمكن ان نسميها ثقافة الخوف حيث يتم تعزيز خوف المواطن (الإنسان الكردي) من سلطة الدولة ومن قوتها ومن أجهزتها المختلفة , بل إن ما يروجه البعض قد يزرع الخوف في نفس المواطن الكردي أضعافاً مضاعفة مما قد تزرعه أجهزة الدولة المختلفة حيث يتم التهويل لقوة الدولة وسطوتها ويتم تجريد الشعب الكردي من أية إمكانية للمقاومة والدفاع عن النفس وعن الحق وعن القضية , إن لسان حالهم يقول (إننا شعب مسكين وفقير وأعزل وليس لنا أصدقاء وليس هناك من يدافع عنا , وإن عناصر عدة دوريات أمنية يمكنها أن تلقي القبض على جموع أبناء شعبنا أو أبناء مدينة كاملة) من حيث الظاهر قد يكون هذا الكلام صحيحاً فنحن شعب أعزل ولا نملك السلاح ولا نسعى إلى امتلاكه  ولا نبحث عنه البتة ولكن هل أن السلاح هو المصدر الوحيد للقوة والشجاعة والمقاومة ؟ وهل أن تفوق السلطة علينا يعني الاستسلام لثقافتها وأجندتها حتى يفرج الله علينا , ولن يفرج علينا طالما تملكنا هذا الخوف .
إننا لا نكيل الاتهامات لأحد فقد يكون دافع مروجي هذه الثقافة هو الحرص الزائد على سلامة شعبنا ولكن هنا نستذكر قوله تعالى (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) ويحق لنا أن نتساءل وأن نطلع سوياً على تاريخ الشعوب ومن بينها شعبنا الكردي ، وهنا نسرد نموذجين من ثقافة المقاومة والبطولة وعدم الاستسلام .
أولهما : الثورة الكردية في كردستان العراق بقيادة الخالد مصطفى البار زاني , فلو انطلق (أب الكرد) مصطفى البارزاني من معادلات القوة المادية البحتة (قوة العتاد والأسلحة المتطورة التي امتلكتها الأنظمة العراقية المتعاقبة من دبابات وطائرات ومئات الآلاف من العسكر) مقابل عدد ضئيل من البيشمركة إذا ماقورن بتعداد الجيش العراقي (حيث عدد البيشمركة كان بالمئات في أحسن الأحوال مقابل مئات الآلاف من الجيش) وأسلحة بدائية مقابل سلاح متطور , لو انطلق الخالد من هذه المعادلة لما حمل السلاح في وجه النظام العراقي ولاستسلم له وذهبت القضية الكردية في مهب الرياح إلا ان القائد الخالد انطلق في كفاحه من نقطتين أساسيتين هما : 1- عدالة ومشروعية القضية التي يدافع عنها 2- إرادة المقاومة والاستبسال , ثقافة المقاومة ، ثقافة الشهادة ، ثقافة التحرر والإيمان بالقضية الكردية , (وهنا يجب أن نؤكد على شخصيته الاستثنائية والتاريخية والتي لعبت دوراً رائداً في الأحداث) وقد أكدت الأحداث والتطورات أن هذين العنصرين قد نجحا في التغلب على أكثر الأنظمة دموية وشراسة وفتكاً في العالم وما تشهده كردستان العراق حالياً من فدرالية واستقرار وتطور (رغم أنه الجزء الثالث من حيث المساحة وتعداد السكان بالنسبة لأجزاء كردستان الأخرى) إلا أنه حقق ما لم تحققه الأجزاء الأخرى بفضل النهج الذي أعتمده البارزاني الخالد وهو نهج المقاومة والصمود .
ثانيهما : التجربة الهندية فهاهو الزعيم الهندي المهاتما غاندي المنحدر من عائلة ارستقراطية هندية والمتخرج من جامعة اوكسفورد البريطانية ينجح في نشر ثقافة المقاومة وقيادة شعبه في عصيان مدني شامل أربك كثيراً الإنكليز مما أضطرهم اخيراً ورغم اتباعهم لجميع الوسائل إلى الخروج من الهند مهزومين دون ان يطلق الهنود عليهم طلقة واحدة .
إننا هنا لسنا بصدد القيام بثورة مسلحة والتي نرفضها رفضاً قاطعاً , ولكننا بصدد نشر ثقافة المقاومة (مقاومة المشاريع العنصرية والشوفينية والاستعداد للتضحية من أجل الحقوق القومية للشعب الكردي) لا ثقافة الخوف (والتي تؤدي إلى المزيد من الاستسلام وبالتالي المزيد من السياسات الشوفينية والمزيد من السعي إلى تطويع الشعب الكردي للقبول بالأمر الواقع وعدم القدرو على تغييره) , وأعتقد لو اننا أجرينا جرداً شاملاً لكل شعوب الأرض التي نجحت في الحصول على حقوقها المشروعة لن نجد تجربة مماثلة لتجربتنا القائمة على إصدار جرائد شهرية وبيانات في بعض المناسبات , واعتصام تقليدي وشكلي في 5-10 من كل عام هذا الاعتصام الذي يهدف إلى تحقيق أمرين في نفس الوقت وهما (إرضاء الشارع الكردي مع عدم إزعاج السلطات) .
إن مراجعة شاملة لسياساتنا خلال عقود من الزمن وإتباع كل أساليب التوسل والتودد والتملق , فهل حققنا شيئاً يمكن ان نعتز ونفتخر به أمام شعبنا وأجيالنا القادمة , اعتقد أن مراجعة للذات قائمة على الصدق مع النفس توصلنا إلى نتيجة واحدة وهي إن سياسة التوسل (والنضال ؟!!) المختزل في بضعة بيانات سنوية وأعداد من الجرائد لم يعد يقرأها حتى المشرفون عليها لم تعد مجدية .
إن الأمر يتطلب تطويراً جدياً في النضال الديمقراطي وآلياته وأساليبه , وأن الخطوة الأولى في هذا الاتجاه تتطلب التخلص من ثقافة الخوف التي زرعتها السلطة والتي ساهمت بعض أطراف الحركة في ترسيخها وتعزيزها وتضخيمها والتي تهدف إلى خلق حالة من الخنوع والاستسلام لدى أبناء شعبنا نحن الآن أحوج مانكون إلى نشر ثقافة مقاومة الاضطهاد وإلى نشر ثقافة الإيمان بالذات والشعب والقضية , ونشر ثقافة الإيمان بالنضال الديمقراطي بجميع أشكاله وأساليبه وتطويره والاستعداد لتحمل نتائجه وتبعاته .
القامشلي في 20-10-2006

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…