إلى مَن لا يهمُّهُ الأمر: (مُشعوذٌ يُديرُ مدرسةً ابتدائية)

غولدَم ميدي
 
  كان لها شرف التدريس في السنة الأولى بعد تخرجها من الجامعة؛ كان لها شرف التدريس في تلك المدرسة التي كانت تحتضن لَعثماتها الأوليّة حين كانت تُهجِئ الحروف في سنيها الأولى آنذاك.
  تلك المدرسة التي تذوقَت فيها قشطةَ أبجديةِ الحياة، فما كان لها إلا أن تهرعَ لتلبية نداء حنين الطفولة وتستجمع كل ما أوتيت من حبّ ٍ واستطاعة لتُفرغ طاقاتها فيها إحياءً للذكرى ـ التي لم تمت ـ لتلك الأيام البريئة، لكل ما هو شفّاف آنذاك، ولتلك المعلّمة الرؤوف التي كانت تحتضن حياؤها الطفولي بابتسامةٍ حنونة، فشجّعتها تلك الابتسامة على بناء حلمٍ جديدٍ بأن تصبح معلمةً في المستقبل، وتحتضن ابتساماتِ براعمٍ صغيرة وتعمل على تفتّح تلك البراعم بأبهى صورة،  كما كانت معلمتها تفعل حينئذٍ بصدرٍ رحبٍ وقلبٍ مفعمٍ بالحب والحنان.
ولكن سرعان ما أصيبت مشاعرها الحثيثة تلك بالإحباط حالَ تدريسها في تلك المدرسة ، لعلّةَ ما رأته في ذلك المبنى التعليمي الصاخب الذي فوجئَتْ به وإذ تملؤهُ الفوضى وتعمّه اللامبالاة، وتفوحُ من دهاليز صفوفهِ روائح عفنة من الإهمال، والتي تضمحلُّ لها الجباه  وتتدلّى بها الشفاه أسـفاً وخجلاً ( طبعاً لمن يشعر بالخجل والأسف حيال عثراتها) !!            
يؤسفني بل يؤلمني أن أُعدّد الكثير من العثرات والأخطاء التي تعجُّ بها تلك المؤسسة الحكوميّة (في منطقة ديريك) والتي هي واحدة من بين تلك المؤسسات الحكوميّة الكثيرة غير النموذجيّة في المنطقة، والتي سنأتي على ذكرها تِباعاً في المقالات القادمة ( إن تيسّر لنا ذلك)، التي ينبغي أن تُعتبرَ صرحاً للعلم والتقدم، وتعمل على رفع مستوى الإنسان الثقافي والحضاري في حقبةٍ تتآلف فيها كلّ الثقافات،
ويتصاهر فيها الحاضر والمستقبل معاً، ويصبح للمملكة الورقيّة وللصولجان الحِبري دوراً ثانويّاً بعد بروز جمهوريّة الإنترنيت، وفي عصرٍ تمتشق فيها الأفكار المتجددة سيفها ذي الحدّين لاجتثاث التخلّف والجهل وتحريضِّ كلّ امرؤٍ على فتق كلّ أنواع القيود، للانطلاق نحو غدٍ منبلجٍ والذودِ بالآخر للّحاق بعجلات التبلور في زمن الحداثة بوسائلٍ عصريّةٍ.

 يؤسفني تمام الأسف ـ ثانيةً ـ أن أحيط بذكر تلك العثرات بل المظالم – إن صحَّ التعبير- التي تُرتكبُ بحق الشعب، إذ لابدّ من لفت انتباه الرأي العام والشارع الكردي – كونه المعنيٌّ بالأمر- إلى هذه الطوارئ، بعد أن تجاوز السكين اللحم واصلاً إلى العظم، في ظلّ غياب الضمير الحي والرقابة والمحاسبة والتقييم الذاتي واختيار الإنسان الكفء في المَوطِئ المناسب.


فهذه المدرسة الابتدائية التي كان لابدّ وأن تُـكوِّن لكلِّ طالبٍ مبتدئٍ حجراً أوليّاً للعلم والمعرفة، ذلك الحجر الذي سيغدو فيما بعد برجاً أبدعَ في إتقانه مَن تدرّبَ على أيديهم من مدرسين أكفّاء وربانٍ (مديرٍ) أشرف على تشييد لبُنات ذاك الصرح الذي سيصبحُ مهيباً – مستقبلاً – بعد أن يوجَّه إلى مساره الصحيح توجيهاً مثاليّاً.


جميلٌ أن ننبهرَ بذلك فيما إن كان صحيحاً، ولكن، ماذا لو كان مستحيلاً في كنف مشعوذٍ يشرف على هدمِ صرح كلّ علمٍ  بغرقهِ في الترّهات والإلهامات الكاذبة من خلال إبداعهِ في مثلثاته القماشيّة (الأحجبة) التي يتاجر بها هازئاً من عقول البسطاء، تاركاً الحبل على الغارب وغير آبهٍ بما يجري من حوله في المدرسة سوى الحصول على رخصة البقاء على عرش الإدارة والتمديد له عن طريق الحرص – وبجديّة – على رفع شعارات التمجيد عالياً، وملء كرّاساتٍ الأطفال البريئة بآياتٍ بعثيّة (عبثيّة).


هذا إلى جانب – شَفْطِ – جيوب أولياء الطلاب السُذَّج بما يسمّى بـ(التعاون النشاط المدرسي) بحجة تخصيصها للوقود الشتوي وشهادات الطلاب النهائية في نهاية العام الدراسي، وإلى ما هنالك من مبررات لا مبرر لها سيما وأنه – المدير- لا يسمح إلا باستهلاك ثلث كميّة الوقود الشتوي المخصصة بأقصى تقدير، كما أن الأوراق المدرسية وشهادات الطلاب وأوراق المذاكرات والفحص وغيرها تتكفّل وزارة التربية بتقديمها للمدارس الابتدائية مجّاناً؛ لكنّ هذا المدير المحترم يقوم بإلقاء تلك المبالغ ( الموَفّرَة ) في جراب سرواله لملء
بطون أولئك الذين يحرصون على إبقاءه في منصبه ذاك وعدم محاسبته على أخطائه الثَرّة (رغم عِـلمهم بها) لغايةٍ في نفس يعقوب!!!
ولكنّ الأكثر إيلاماً هو قيامه بالتخلّص من طلاب المدرسة سنةً بعد أخرى لتغطية عيوبه وذلك برفع درجات محصّلاتهم الدراسيّة (شاء المدرّس أم أبى) حتى لو كان تحصيلهم العلمي ضعيفاً، ناهيكَ عن تزويره درجات الطلاب العلميّة في نهاية العام الدراسي في غفلةٍ عن المدرّس الذي يحرص، بدورهِ، كغيره من زملائه المدرسين على عدم إغضاب ذلك النّبي المتبرّك الذي سيرشقهم بلعناته فيما لو عصوا أوامره أو يعرقل لهم مصالحهم وأشغالهم التي يتتبّعونها، أثناء أوقات الدوام المدرسي، خارج المدرسة!!
وفي المحصّلة يكون الطالب هو ضحيّة كل ذلك العبث الذي يقترفه المدرسون مع ذلك الدّجّال الذي يحصر مهماته في إضحاك المدرسين بالنُكات وتحويل الغاية المرجوة للمدرسة إلى جوٍ من الهزل والاستخفاف، كل ذلك على حساب ذلك المسكين الذي ظُلِمَ
بعدم اهتمام أهله به من جهة، وبعدم مبالاة إدارة المدرسة بمصيره من جهةٍ أخرى.


فمَن عليه رفع أثقال تلك المسؤوليات الموهنة التي يندى لها الجبين؟ وهذا الظلم الذي يُمارَس بحقّ تلك البراعم الصغيرة عن طريق آلةٍ صدئةٍ متمثّلةٍ بالمدير الذي لا يهمه سوى تعبئة برجه الأحمر( بيته ) الذي يجاور المدرسة؛ تعبئته بالتّحف والهياكل الغريبة والأصنام حتى غدا مثل معبدٍ يؤمّه كلّ ساذجٍ وجاهلٍ لإيمانهم الأعمى بنبوّة ذاك الساحر!!
مَن له حقّ محاسبة هذه الضّالة التائهة؟ هذا الجبان المتخاذل الذي يتلعثم حالما يتّهمه أحدٌ بالتواني أو التقصير، هذا الذي لا يجيدُ العربية، كأنّما له لغةٌ خاصة يتفوّه بها، لغةٌ تتناسب ومركزَه السحري الذي يمغنط الناس به، أهذا مَن قصده الشاعر في بيته الشعري حين قال:
                          قمْ للمعلِّمِ ووفِّهِ التبجيلا   *     *      *  كادَ المعلمُ أن يكونَ رسولا ؟!
أيُّ معلّمٍ ورسولٍ هذا ؟ وأيّةُ رسالة فقهيّة هي التي أتى بها لطلبة العلم هذا الماكر العابث ؟!! فعلى مَن نلقي أعباء هذا العبث؟؟ أنلقيها على المتآمرين الذين أصرّوا على إبقاء هذا المشعوذ على كرسي إدارة المدرسة ليحققوا بهِ مآربهم، سيما وأنّ المدرسة تقع في كنف حيّ كردي جلّ طلبته من الكُـرد؟؟!! أم نلقي اللوم على أولياء الطلبة الذين سحرهم ذاك المشعوذ بخرافاته وأكاذيبه ؟ لأنّهُ لو سُئِلَ أحد الأولياء عن السنة الدراسيّة التي توصّلَ إليها ابنهُ أو ابنته، لَعجزَ عن الإجابة لجهله بذلك (وهذا الكلام ليس مبالغاً فيه بل إنها حقيقةٌ واقعة).
فهل يُلام هذا الأبّ الأمّي الساذج الفقير- وحده -على إهماله لمستقبل أولاده التعليمي؟ وهل يتوجّب على إدارة المدرسة زيادة الطين بلّةً، وذلك بِترك الطلاب عرضةً لعُباب الجهل بحجّة أنّ الأولياء لا يهتمون بمستقبل بنيهم وبناتهم؟؟! وهل تنحصر مهمّة تعليم الطلبة وإرشادهم وتوجيههم وتربيتهم على الأولياء فقط ؟؟ أَنلقي اللوم عليهم، أم على أعضاء الهيئة التدريسية المسؤولة عن مستقبل أولئك الطلاب، أولئك الذين ينظمّون شعارات الوطنيّة عبثاً مدّعين باستعدادهم لتحرير الوطن غافلين عن النموذج المصغّر الذي بين أيديهم (المدرسة) التي تمثّل وطناً بكلّ أبعاده، ويُستحق التضحية في سبيلهِ لمَن تترتب عليه مَعالِم الوطنيّة الحقّة.

 
ومن الجدير بالذكر بأنّ هذه المدرسة كانت من خيرة مدارس المنطقة، حيث خرّجت أطباء ومهندسين ومحامين ومدرّسين والعشرات من المتفوقين الذين وُضِعت اللبنات الأولى لمستقبلهم المشرق بجدارة، وذلك قبيل وصول هذا الداعي إلى منصب إدارة المدرسة التي
تراجعت في كنفه شيئاً فشيئاً، فما أسهل الهدم وما أسرعهُ في الحين الذي يصعب فيه بل يستحيل القيام بالبناء النموذجي بسهولة!!
مَن المُعاتَب على هذا التقصير والإهمال تجاه هذه البراعم التي لن تغدو أزهاراً ووروداً ما لم يتعهّدها مسؤولوها بالرعاية والعناية؟؟
ماذا يترتّب على مديرية التربية والتعليم ( في الحسكة) فعلهُ إزاء هذا النموذج من الإهمال الذي هو واحدٌ من بين مئات النماذج التي لا تتلقّى الاهتمام اللازم من الناحيتين التعليمية والتربويّة في شتّى أنحاء المحافظة؟؟
ألا ينبغي على المعنيين في الدولة الكفّ عن نظام المحسوبيّة والعمل على وضع خطط وبرامج لرفع المستوى التعليمي الذي بدأ يتداعى في السنوات الأخيرة، ووضع الرجل الكفء في المكان المناسب واستئصال هكذا حالات مُشينة وضارّة بالعلم والمجتمع السوري سواءً بسواء، استئصالها من الجذور؟ لأنّ مثل هؤلاء الأشخاص هم عالّة على الوطن وعلى الإنسانيّة جمعاء، فكيف يمكن لمشعوذٍ ومؤمنٍ بالسحر والدّجل أن يقوم بتربية أجيالٍ وتعليمهم وإرشادهم بالطرق والوسائل العصريّة المثاليّة؟!!
والمفارقة تبدو في تكريم هذا المشعوذ بين فترةٍ وأخرى -على جهوده المبذولة – فأيّةُ جهودٍ هي المقصودة والتي يُكرّم عليها ذاك الدّجّال،
هل هي الجهود الهدّامة أم البنّاءة ؟!!
وكلّ ذلك جعل تلك المعلِّمة المصدومة بما لمستهُ من هدمٍ وتخريبٍ في مدرستها الحبيبة، جعلها تصدّق مَن قال:
( السيّئون تُحفَر أسماؤهم على النحاس والمُحسنون تُخطُّ أسماؤهم على الرمال) !!

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…