عنايت ديكو
انهار الاتحاد السوفيتي كأحد أكبر تحدٍّ ومنافسٍ للعالم الغربي ولوجوده الحضاري والسياسي والاقتصادي في قيادة العالم. وغابت الكتلة الاشتراكية عن مسرح الأحداث كمنظومةٍ سياسية واقتصادية وفكرية، وسقطت سقوطاً مدوّياً عبر كل أركانها القيميةِ والثقافيةِ والمجتمعية. فبرز مباشرة وعلى الفور مصطلح “العولمة”، العابر للقارات والمحيطات، الذي استُنْبطَ من بواطن وجذور التفكير والمنهج الغربي المنتصر، وخرج هذا المصطلح بكل ما يحمل من ارتدادات الى الفضاءات المعرفية والسياسية والاقتصادية الدولية، بلبوسٍ أكثر رأفةً وانسجاماً وانسانية، كي يتناسب مع النتائج والمتغيرات والهزّات والارتدادات التي رافقت انهيار الاتحاد السوفييتي. وكان هذا المصطلح، أي مصطلح “العولمة” بمثابة المسمار الأخير في نعش منظومة المتحكمات الحدودية والسياسية الدولية في العالم.
حتى باتت حدود الدول والأقطار والأوطان كلها مفتوحة على مصراعيها أمام هذا المصطلح وأمام هذه الفلسفات والأفكار الغربية القادمة. ونتيجة لقوة التغيير وسرعة التقلبات السياسية والاقتصادية في العالم، تحوَّل الفكر الغربي التغييري العولمي المتسلح بالأنسنة والمعارف والديمقراطيات، الى نوع من العقيدة البشرية الحديثة، والى مُسَلَّمَةٍ دنيوية شاملة، وكأنها قانونٌ ربّاني، ونحن أمام حالةٍ جديدةٍ من كلام الله المُنَزَّلْ، الذي لا جدال حوله وممنوع التشكيك به والخوض في بنيانه وخصائصه.
– اجتاح هذا الفكر الغربي المُسلّح والمتسلّح برداء حقوق الانسان والديمقراطيات كل الحدود والسدود والحواجز والحيطان في العالم، بكل إيجابياته وسلبياته، وأخذ هذا الشمشون يبحث عن المساحات والمستعمرات الارتكازية في شتى بقاع الأرض، لقيادة الالفية الثالثة بأريحية وهدوء. ضارباً بكل الموانع والحواجز والمعترضات الفكرية والثقافية الأخرى في طريقه نحو الأمام، قائلاً: كل مَنْ هو ليس معي … فهو ضدّي.!
– لقد مارس المنهج الغربي المنتصر هذا السلوك والممارسات الباباوية طيلة ربع قرن في قيادة العالم، وزادت معها المجاعات والصراعات والحروب والهجرة والأزمات الاقتصادية يوماً بعد يوم، وما ظهور الترامبية كأحد أشرس أضلاع هذه السيطرة الغربية، إلا ترجمة حقيقية لعُصارة هذا الفكر الغربي المُهيمن والكاسح كأرجل الفيل في الغابة.
لقد أفرز هذا المنطق والمنهج الغربي في الحكم والتحكم بالبشر، أفكار وفلسفات وثقافات خاصة به، أكانت تلك الأفكار تتماشى وتتطابق مع الثقافات والمجتمعات الأخرى في الأطراف الأخرى من العالم أم لا، وحاولت المنهجية الغربية أحياناً، تطبيق القيمية الثقافية والفكرية الغربية الخاصة بها على كل الشعوب والدول والقارات، وانعكست تلك القوالب والتطبيقات الغربية الجاهزة والمقولبة، على شتى مناحي الحياة والوجود في العالم، من التجارة الى الفضاء والسياسة والثقافة والعلوم الديجيتالية والقيم المجتمعية والأديان والى سائر القيم الانسانية الأخرىٰ.
لكن علينا أن لا ننسىٰ، بأن هذا المنهج والمنطق الغربي المنتصر، اعتمد اعتماداً كبيراً على الكمون الهائل في واحات الوعي والذاكرة الجمعية للعالم الغربي، وعلى القفزات العلمية والمعرفية والاقتصادية الكبيرة والهائلة، التي حصلت في بواطن مختبرات الفكر الغربي بشكل عام.
– ونتيجة لكل تلك المخاضات والتراكمات المالية والاقتصادية الضخمة والفكر الربحي الهائل والكبير والطائل الذي تميّز به الفكر والمنهج الغربي، بات من الصعب التحكم بالتفاعلات والأزمات البنيوية الداخلية، وخاصة الاقتصادية والسياسية والمجتمعية منها، وعلى اثر هذا، دخل المنهج الغربي حالة استاتيكية منفردة، حاملاً معه مشروع الخمول والجمود والعناصر غير المُشجعة للتغيير والتطوير والتبديل، الى جانب عدم وجود فكر ومنهج مغاير ومُعارضٍ له، ليستقي منه عناصر البقاء والديمومة والاستمرار . ونتيجة لانعدامية وجود منافسٍ حقيقي أمام هذا الفكر الغربي، ليستمد نشاطهُ ودورته التجديديه منه، قد دخل المنهج والفكر الغربي نفقاً ثابتاً، وحصلت تناقضات جوهرية بنيوية ووجودية، ما أدى في الأخير الى انكشاف الاطار الكلّي والشامل للأزمات الجوهرية التي تعصف بهذا الفكر والمنهج الغربي .!
فظهور أزمة كورونا مثلاً وتجلياتها وتحدّياتها المجتمعية في رحاب الفكر والتفكير الغربي والتعاطي معها، وانهيار مقاييس العمل والرفاهية، وظهور الفقر والجريمة والطبقات الفقيرة، وصعود التيارات اليمينية القومية المتطرفة في قلب أوروبا والعالم الغربي، ومحاولة تصدير الأزمات المحتمعية الى الخارج، يجعلنا نعتقد بأن المنهجية الغربية في ادارة العالم، باتت اليوم أمام أوضاع غير مستقرة، وتحاول تصدير أزماتها الداخلية والمجتمعية الى الخارج، سواء عن طريق السيطرة المالية والعسكرية والسياسية والاقتصادية والطاقة والفضاء والتحكم بمفاصل الأمن العالمي واشعال الحروب وافتعال الازمات مثل الربيع العربي والمجاعات والغلاء والهجرة ، أو عبر اشعال الحروب بالوكالة هنا وهناك، والحرب الاوكرانية خير مثال .
واليوم عندما نُشاهد ظهور التيارات القومية والراديكالية اليمينية في دول أوروبا وبرلماناتها، وحدوث الكثير من التصدعات في بنية الوحدات والتكتلات الاقتصادية والسياسية، كعملية بريكسيت وخروج ” انكلترا ” من النادي الاوروبي والابتعاد قدر الامكان عن ساحة الانهيارات الملتهبة والمليئة بالتناقضات والعناصر الشاردة. نصل لنتيجةٍ مفادها، هو أن العقل والمنطق والمنهج الغربي، بات اليوم بحاجة ماسة الى صناعة عدوٍ حقيقي له، بعد أن فشل في تقديم أعداء وهميين لمجتمعاتهم مثل القاعدة والطالبان والاسلام السياسي وغيره .!
فالحرب الاوكرانية هي تلك المرآة العاكسة لذاك المنطق والمنهج الذي نتكلم عنه اليوم.
– يتبع ………
——————