إبراهيم محمود
” إلى كل من الكتاب الكرد، وحسب تسلسل رحيلهم الأبدي: محمد سيد حسين، جلال زنكابادي، ودلكش مرعي ! “
أرسل إلي صديق مبدع من دهوك في كتابة الشعر” أتحفظ على ذكر اسمه لأسباب أخلاقية “، مقطع فيديو يصدم بمحتواه، ثمة من يسرد ما يشبه قصة قصيرة جداً، فحواها أن جنود عدوّ دخلوا مدينة واغتصبوا نساءها، وفي الصباح عادوا إلى ثكناتهم. سوى أن امرأة واحدة من بينهن ظهرت وهي تحمل رأس جندي مقطوع، ترفعه بيدها، وهي تقول: كيف لم تقاومن مثلما قاومت وقتلتُه؟ وترى هؤلاء النساء أن بقاءها بمفردها فيما لو جاء رجالهن، سيكون فضيحة لهن، وللتستر على الحقيقة يتفقن على قتلها، وهذا ما تم. وليجري تسييد العار على الشرف والفضيلة.
هذه نقطة تمثل فيصل التفرقة بين الرضوخ للأعداء ومقاومتهم .
ذكَّرتني هذه القصة/ الواقعة بقصة كتبها القاص الكردي الأصل نيروز مالك، قرأتها منذ عقود من السنين، تتمثل في أن الأعداء دخلوا المدينة، وهرب رجالها منها. وفي المساء تسلل أحد ضباط المدينة الهاربين لينام في بيته مع زوجته، وفي الصباح، أراد الخروج خوفاً من أن يُلقى عليه القبض،لكنه قبل خروجه استوقفته زوجته مخاطبة إياه: نسيت أن تدفع أجرة الليلة .
هذه نقطة صادمة وتوازي الأولى في رعب محتواها الأخلاقي وأكثر بكثير .
في الحالتين هناك ما يستدعي التوقف، والسؤال عما يمكن لأي منا أن يعيشه من وعي مكاني، وامتلاء بأخلاقية الدفاع عن المكان بكل ما فيه، دون ذلك أي قيمة للثقافة، للكتابة يا تُرى ؟
وحده الذي يعيش أخلاقية المسئولية والدفاع عن الحقيقة هو من يستمر في التاريخ” أليس التاريخ هو الذي يظهِر لنا جرأة الكاتب الفرنسي إميل زولا، في مقاله ” إنّي أتهم “في قضية دريفوس، قبل قرنين وثلث القرن، مدافعاً عن دريفوس الضابط واعتباره بريئاً، وهو ما تحقق له، في الوقت الذي ووجه من قبل أغلب كتاب عصره وسياسييه، لكنه بعد وقت قصير أصبح رمز فضيلة ؟!”
إزاء ذلك، في أمكنة كثيرة، وكردياً، ما أسهل أن نجد من يرفع من شأن العار ويسيّده متكتماً، ومعتماً على الحقيقة، حيث العار يرفل بالغار في وضح النهار، وله أكثر من يد فيه ؟
ما جرى ويجري منذ عدة عقود من الزمن، ما أكثر الذين عرَّفوا ويعرّفون بأنفسهم كتّاباً، لا بل ومثقفين ومفكرين وباحثين من الطراز الأول، إنما استناداً إلى أي رصيد اعتباري ؟
ما جرى ونشهد ” مثار نقعه ” ومن قبل من يريدون تشويه سمعة من يحتفظ التاريخ بإيقونة صورتهم في أكثر من موقف، ولزمن طويل، وبالمرصاد في مواجهة العدو الاجتماعي والقومي والسياسي للكرد، وضد صور الفساد المختلفة، يشدد على عمق النخر الوجداني – الروحي! لا شيء يردعهم سوى ما ركّبوا به عليه من سوء التقدير لمن يتطلب تقديراً وليس الإساءة إليه!
كثير منهم خرجوا إلى العالم الذي يمكنهم أن يرددوا كردستان يومياً عشرات المرات، أن يتحدثوا عن كرديتهم مراراً وتكراراً، أن يعقدوا ندوات، ويوزعوا أدواراً ويوجهوا اتهامات، ويسمّوا النظام الذي يبعد عنهم آلاف الكيلومترات شاتمين إياه، ودون أن يتخلوا عن توجيه الاتهام إلى الذين يتسترون على الظلم، يتسترون على العار في مواجهة فضائح النظام هنا وهناك، وهم في مأمن، وهم يدركون تماماً أنهم بذلك يحاولون تغطية عارهم، جبنهم، تخاذلهم، ورخاوتهم حين كانوا في ” الوطن ” وهم في قرارة أنفسهم يعرفون أن الجرح العميق الذي ولَّدته الأحداث داخلهم، مرئيّ من قبل كل من يعرفهم عن قرب. وأنهم حين يزعمون أنهم باقون في ” الوطن ” إنما يحاولون التعويض، سوى أن الذي يخافون من تسميته هو أن الذي ظهروا فيه سابقاً، وهو تسييد العار والاحتكام إليه، يستحيل تجاوزه، وفي الوقت الذي يعجزون عن الاعتراف بجبنهم ذاك، وهو ما يمكن اختصاره بـ” زيف المثقف ” أو ” خلَّبيته ” ومسرحة الموقف واقعاً .
لا شيء يمكن التستر عليه سلباً أو إيجاباً. إن الولادة المرَضية المجرثمة كورونياً في السنوات الأخيرة بأسماء حقيقية أو ضمن منتديات وتنظيمات وسواها، ومن خلال مئات منها، وهي تعرّف بنفسها تحت أضواء مناسباتية، وإصدار بيانات، ورفع شعارات، وكيل المديح المجاني هنا وهناك تحزبياً وخلافه، إن كل ذلك في مقدور أي متابع، وبسهولة تبيّن ضحالتها وبؤس مردودها.
أقولها، حين أجدني في مواجهة مثل هذا الداء المستفحل، والذي يترجم سلوكية من يلقَّب بالمثقف أو حتى بالمفكر بسهولة، ويوصف بالجريء والمتنور، وهو يعيش في الخارج، ويتجاهل ما كان عليه حاله حتى الأمس القريب .
هوذا الساعي إلى تعكير الماء، واللعب بالمشاعر، وعدم الاعتراف بجهود الذين ظهروا رافعي صوتهم عالياً في وجه الاستبداد ورمزه والمتواطئين معه، وأعتقد أن أياً كان حين ينبري مواجهاً لأي من هؤلاء، من السهل جداً إرجاعه من الغفلة إلى اليقظة المطلوبة .
ليس هناك سوى تاريخ واحد، ليس هناك سوى حقيقة واحدة. والتاريخ لا يصححه إلا التاريخ، والحقيقة لا تتصوب إلا من ذاتها وبذاتها. أم أن ما يواجهنا به التاريخ من حقائق يومياً وهم؟!