د باسل معراوي
اعتاد السوريُون على الهروب من القذائف والبراميل المتفجرة وصواريخ الطيران الروسي، بل واعتادوا على الهروب من خطوط الجوع والظٌلمة والأوحال بل وتعلّموا أساليب الوقاية من الأسلحة الكيماوية والتي اعتاد النظام السوري والعدوّ الروسي استخدامها ضد الشعب لعشرات المرات.
إلاّ أنّ الهروب من الكوارث الطبيعية تكون خياراته محدودة وصعبة ولم يعتادوا عليه، وشاءت الأقدار الإلهية أن يَمسُهم الضرّ بعضاً منها، ولم تزيدهم المحن والكوارث والخذلان الدولي إلاّّ قوّةً وصلابة، وبحيث يخرجوا من كل محنة تَلمّ بهم أشدّ عوداً وصلابة من السابق.
وفي ظلُ عاصفة ثلجية هي الأقوى هذا العام، وفي ظلّ التحذيرات بالتزامهم ما تبقى من بيوتهم وخيامهم في رحلة نزوحهم، كانت بيوتهم تهتز وهم نيام فجر السادس من شباط، في تجربة جديدة ومريرة من سلسلة آلامهم (التي طالت كثيرا) كان عليهم إمّا احتضان أطفالهم تحت الركام او الهروب إلى خارج البيوت المنهارة او المتصدّعة إلى الساحات والشوارع بظروف جوية شديدة القساوة وخوف وهلع شديدين، كل ذلك تم في أقل من دقيقتين كانتا كافيتان لفقدان الأحبة والامان، وبدء البحث عن رحلة نزوح جديدة.
وبسبب الارتباط الجيوسياسي بين تركيا وسورية، ولأن الطبيعة لا تعترف إلاّ بحدودها هي وليس بالحدود السياسية للممالك والدول فقد فرضت الطبيعة قوانينها ولا تعترف بنتائج الحرب العالمية الأولى ولا معاهدات سايكس -بيكو، وكان منطقة الزلزال واحدة هي الجنوب الغربي لتركيا والشمال الغربي لسورية.
وبالتأكيد ستترك الكارثة أثرها لفترة ليست بالقصيرة على المجتمعين السوري والتركي وقواهما السياسية المعبرة عنهما، وباعتبار أنّ الدولة التركية القوية والمستقرة هي الفاعل الأكبر والمؤثّر فسأناقش في هذه المادة حدثان مهمان كانا قي صلب السياسات التركية تجاه الملف السوري حديثاً.
لا عملية عسكرية تركية في الشمال السوري
منذ تعليق عملية نبع السلام في خريف 2019 بعد ستة أيام من بدايتها بضغط أمريكي وروسي وعقد أنقرة لتفاهمات مع كل من واشنطن وموسكو لتحقيق أهداف العملية بدلاً من إكمالها، وأهمّ بند في تلك التفاهمات إبعاد ما يسمى بـ “قوات سورية الديمقراطية” عن الحدود التركية ودفعها بعيداً عنها، تشتكي أنقرة بعدم التزام الروس والأمريكان بما تم التفاهم عليه.
ولازالت أنقرة منذ ذلك اليوم تَتَحيّن الفرص لإنجاز ما لم يتم الوصول له بتلك التفاهمات، ومنذ خريف عام 2020 تُهدّد بشنّ عملية عسكرية، التي كانت قاب قوسين أو أدنى في صيف العام الماضي، فبالإضافة إلى أهمية تلك العملية للأمن القومي التركي إلاّ أن القيادة السياسية لها حساباتها الخاصة بالدول الديمقراطية من ناحية توقيتها والذي يخدم الحزب الحاكم أو قد يؤدّي لنتائج عكسية.
ونظراً لأن الانتخابات التركية القادمة مصيرية بالنسبة للحزب الحاكم والرئيس، فقد رأى بعض المراقبين أن القيادة التركية السياسية من خلال شنّ عملية عسكرية ناجحة وخاطفة سوف يُسهم بزيادة شعبيتها والتي تدهورت مؤخراً بسبب الحالة الاقتصادية الصعبة للاقتصاد التركي وحالة المواطن الناخب المعيشية المتدهورة.
وإزاء حجم الكارثة التركية الناجمة عن الزلزال الأخير فإنّ البوصلة السياسية للأحزاب التركية المتنافسة وهما فريقان حزب العدالة والتنمية الحاكم وحلفائه من جهة، وتحالف احزاب المعارضة الستة في الجهة المنافسة.
وسيكون اتجاه تلك البوصلة هو موضوع داخلي بحت يتجلّى بالتخفيف من آثار الكارثة، حيث ليس من السهولة بمكان تجاوز تلك الآثار في ظل انهيار كامل لمنشآت اقتصادية في المحافظات المنكوبة وتصدّع وانهيار آلاف المباني السكنية وخراب كبير في البنى التحتية الأساسية.
وقد طالت الحكومة انتقادات مُبكّرة بسبب الأداء غير الجيّد لفرق الإغاثة التركية او ارتباكها على الاقل وإتهام رئيس حزب الشعب الجمهوري كليتشيدار أوغلو (وهو بالوقت نفسه المرشح الأوفر حظا لمنازلة الرئيس القوي في السباق الانتخابي) للرئيس بمسؤوليته عن الكارثة لأنّه أمضى عشرون عاماً في السلطة ولم يتخذّ الإجراءات المناسبة للحدّ من الكارثة، رافق ذلك صرف الرئيس التركي مساعدة عاجلة للأسر المنكوبة بقيمة عشرة آلاف ليرة تركية والتعهد ببناء آلاف الشقق الجديدة لإسكان من فقد منزله.
ومن المرجّح أن يكون موضوع الحملة الانتخابية المقبلة هو انشغال الحكومة بشأن تخفيف آثار الكارثة وتَصيّد المعارضة لأخطاء تلك الحكومة والتعهد بتقديم الأفضل فيما لو وصلت هي للسلطة.
وفي خِضمّ هذا الصراع لن تُقدم الحكومة بالطبع على اي عمل عسكري خارج حدودها، يَستنزف جُهدها وإمكاناتها ويتسبب في مزيد من الخسائر البشرية لجنودها والمدنيين الذين لم يطلهم الزلزال، وهذا الأمر سينعكس إيجاباً على قوات (قسد)، وبالطبع سوف تَتَحسّن العلاقات الأمريكية التركية نتيجة لزوال التهديد التركي بشنّ تلك العملية، وهي فرصة للولايات المتحدة لمحاولة التقريب بين الحكومة التركية وقوات (قسد)، وهي سياسة أمريكية مُعلنة.
2- لا تطبيع مع نظام الأسد
يرى بعضهم أنّ الانعطافة التركية نحو نظام الأسد هي انعطافه تكتيكية أملتها ضرورات المعركة الانتخابية التركية، حيث تمكن حزب العدالة والتنمية الحاكم من تجريد المعارضة من ورقتها الرئيسية وهي الانفتاح على نظام الأسد وذلك لحل مشكلة اللجوء السوري في تركيا، بل حتى ولو كانت تلك الانعطافة إستراتيجية بوقتها فإنّها لم تَعد كذلك بعد الزلزال، حيث من المرجّح أن تُلقي الكارثة بظلال استراتيجية على السياسة التركية أقلّه بالمدى القريب أو المتوسط، حيث قد تَتَغيّر الأولويات أو الضرورات، فلم يعد التنافس على لقاء الأسد (وتَمنّع الأسد دلالاً على لقاء الرئيس التركي) مطروحاً الآن، حيث سيولي الناخب جُلّ اهتمامه لإعادة الإعمار والتأهيل ولن يعود تحميل اللجوء السوري سبب الأزمة الاقتصادية الداخلية بل سيحدث العكس تماماً، فسوف تحتاج تركيا إلى أيدي عاملة ماهرة وعاديّة في إعادة إعمار المحافظات المنكوبة وهي مُتوفّرة لدى السوريين بكثرة وكفاءة معروفة.
وأيضاً على المستوى الخارجي لن تكون أنقرة بموقف التحدّي من واشنطن والعواصم الأوربية والخليجية في السير عكس رغبات تلك العواصم بالتطبيع مع دمشق أو السير قريباً من موسكو وطهران وبالتالي إعطاء زخم لمسار أستانة على حساب مسار جنيف، إذ تحتاج تركيا اليوم ومستقبلاً لعلاقات أقلّ توتراً مع تلك العواصم المعارضة للتطبيع والتي تملك المال والاستثمارات المُتوجّب ضَخّها في الاقتصاد التركي وإعادة الإعمار.
ويُمكِننا القول إنّ مَن سيحصد في سورية من السياسة التركية المُتوقّعة القادمة، ستربح المعارضة السورية بتحسن علاقات أنقرة مع واشنطن والعواصم الأوربية وإزالة غيوم توتر من سماء العلاقات التركية الخليجية، وستربح (قسد) بإنهاء خطر شَنّ عملية عسكرية تركية على مناطق سيطرتها، وسيخسر الأسد بعدم حاجة تركيا لانفتاح عليه وسينجرف ذلك النظام المجرم أكثر فأكثر إلى محور الخاسرين (محور موسكو – طهران).