عز الدين ملا
صحيح أن كل ما يجري على الأرض السورية تتبُّع سياسات مصالح وتوازنات إقليمية ودولية، والمراهنات المصالحية لا تخرج من سياق سياسة المقايضات والنفوذ، ولكن هناك شيء ما هو أهم الذي جعل من السوريين أن يصلوا إلى ما هم عليه، وهو ثقافة المجتمع.
لكل مجتمع ثقافة معينة خاصة به، ومن خلال هذه الثقافة تظهر الأخلاق والمعاملات والتعامُلات بين أبناء المجتمع الواحد، وبين المجتمع والمجتمعات الأخرى، لذلك ترتبط سمو المجتمع ورقييها بتلك الثقافة والعكس صحيح.
في بداية الثورة السورية كان الجميع يتحدّث أن العقلية الاستبدادية والاستغلالية في دوائر الدولة، وفي المرافق العامة كانت نتيجة عقلية النظام السوري الذي لا يقبل الآخر، وغرّس تلك العقلية في عقول المتعاونين معه وهكذا انتشر الفساد والرشوة والمحسوبية وإقصاء الآخر.
وكان هدف الثورة الرئيس هو إزالة تلك العقلية والأفكار التي تمَّ غرسها، ولكن مع مرور السنوات، تبين أن الذي أنهى الثورة تلك العقلية الإقصائية والاستغلالية المبنية على المصلحة الشخصية والمحسوبية لصالح الخاص، فكان التشرذم والتفكُّك الذي حصل داخل الحراك الشبابي، ومن ثم انتقل إلى المعارضة، ما خلق حالة من الخلل وعدم الانضباط في المواقف والأهداف.
ظهرت أطر ومنصّات عديدة للمعارضة، كلٌّ يرقص على هواه وليس على هوى هدف الثورة الرئيس، لذلك ضاعت الثورة وضاع الشعب المنكوب بين هذا وذاك، إما قتيلاً أو مشرّداً أو نازحاً أو لاجئاً. حاول الخيّرون تجميع شتات المعارضة، ولكن الاتهامات والعمالة ضد بعضهم البعض حال دون الوصول إلى التئام أجزائها.
من هنا، بدأت الأيادي باختراق صفوف المعارضة، كلّ جهة سحبت جزءاً من المعارضة إلى جانبها لتنفيذ أجنداتها على الأرض، وهكذا شُتِّتت القوى العسكرية على الأرض، وتحوّل معظمهم إلى مرتزقة وميليشيات، وبدأ الصراع بين أطر المعارضة على الأرض، عوضاً أن تكون البنادق موجّهة نحو من قامت الثورة ضده، وجهوها نحو أنفسهم، وسالت الدماء بين هؤلاء النازحين والمُهجّرين رغم ما عانوه في الأصل نتيجة نزوحهم وهجرتهم من مناطقهم، هنا بدأت المعضلة الخطيرة، هو أن ما كان يحصل لنا ليس فقط كان النظام وحده السبب، بل تلك الثقافة المغروسة في عقولنا في عدم تقبلنا لبعضنا البعض، واستغلالنا لبعضنا البعض.
ما يميز ثقافة المجتمعات الأخرى، هو عندما يكون لك حق في شيء عليك أن تأخذه لا أن تستهين به وتتركه، مثلًا، عندما تركب سيارة عمومية تعطي السائق حقه في الأجرة عند بقاء كمالة النقود، على السائق إرجاعه، وعليه المطالبة به، وعند سكوت السائق في إرجاعه وسكوتك عن المطالبة بحقك، فتلك الثقافة بداية انهيار المجتمع، لا أن نستهين بتلك الحقوق، وتلك الثقافة، فانهيار ثقافة الأخلاق في المجتمع تبدأ بالصغيرات التي نستهين بها فتنتهي بالكبيرات التي لا يمكن ضبطها والسيطرة عليها.
وكذلك عند فقدان مادة معينة من السوق مثلاً السُكَّر، بدل أن نقاطع شراءها يهرع المواطنون إلى شرائها بأسعار مرتفعة، وتكديسها لديهم، هذه الطريقة، وهذه المعاملة في التعامل مع الأزمات يشجِّع التجار على المزيد من الاستغلال والاحتكار وتظهر تجار الحروب والأزمات، هنا تكمن الثقافة المجتمعية، ففي دولة الأرجنتين، عندما استيقظ الشعب الأرجنتيني في أحد الأيام، تفاجأ أن سعر البيض زاد سنتاً، تكدس البيض في المتاجر، وامتنع الشعب الأرجنتيني عن شرائها، أدى إلى تكديس البيض لدى التجار وفسادها لتصبح غير صالحة للأكل، فاضطروا إلى تخفيض سعر البيض أقل من سعره السابق، فكان الشعب اﻷرجنتيني أكثر حيلة وذكاء، هذه الثقافة أجبرت التجار إلى خفض السعر، وردعهم بعدم الاحتكار والاستغلال مرةً أخرى.
الثقافة المجتمعية تضم الإطار السلوكي والقيمي للمجتمع، هي التي تتحكم بالتعاملات بين المواطنين، إن كانت باتجاه الازدهار والرفاهية أو باتجاه الاحتكار والاستغلال.
ما لاحظنا خلال سنوات الأزمة السورية أن ثقافة الاستغلال هي السائدة، لا رحمة ولا شفقة، القوي يأكل الضعيف، تحوّل المجتمع إلى طبقتين، طبقة فائقة الغنى وطبقة فقر مدقع.
والسؤال: لماذا وصلنا إلى ما نحن عليه؟ حتى دول العالم أدارت ظهره للشعب السوري، أكثر من سبعين دولة كانوا أصدقاء الشعب السوري، أين هم الآن؟ يأتي شخص ويقول: مصالح الدول تتحكم بعلاقاتها، صحيح أن المصالح تتحكم، ولكن يا صديقي، ألم تكن هذه الدول لها مصالح في السابق؟ نعم، ولكن ما استخلصوه من الثقافة التي لمسوها من المعارضة السورية والاستغلال والاحتكار والمحسوبية، وجدوا أن لا فرق بين عقلية النظام وعقلية المعارضة، فاستنتجوا أن مصلحتهم إن تختار الأقوى، لذلك انسحبت الدول من صداقاتها مع المعارضة.
ألم تدخل مليارات الدولارات على شكل مساعدات عن طريق المنظمات، إذا ما تمّت بعملية حسابية لتلك المساعدات وتوزيعها على الشعب السوري، لن يبقى أحد بدون مأوى أو طعام أو ملبس، لماذا هذا الفقر المدقع بين الشعب السوري؟ هناك سؤال وسؤال وسؤال، ولن تنتهي الأسئلة إن لم نغيّر ثقافتنا المجتمعية، وقال الله تعالى: إ”ِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ”. صدق الله العظيم.
وعليه، نستنتج أن الثقافة المجتمعية أساس ولادة البنية القاعدية للسلطة الحاكمة. لذا نفهم، ونتيقن أن ما وصلنا إليه هو بأيدينا، وبرغبتنا عن قصد أو دون قصد.
لنعيد التفكير، ونسترجع كافة الأحداث الماضية، ونأخذ العبرة مِما كان، ونبدأ من جديد، ونفتح قلوبنا.
النسيج السوري منوع وجميل، هذا التنوع يعطي الجمالية لمجتمعنا، وسيكون طريقاً لمستقبلٍ مشرق، فلنبدأ.