لم يَحزنوا بما يكفي، و لم يفرحوا أيضاً

حسين جلبي

الحزن و الفرح من المشاعر الإنسانية التي تظهر بصورة تلقائية على وجه الإنسان بسبب ما يعتمل في داخله أحاسيس، و ذلك بعد سماعه أو مشاهدته لأخبارٍ و أحداث مُحزنة أو مُفرحة.

و من الصعوبة بمكان أن يكتم الإنسان مثل هذه المشاعر، أو على الغالب أن يتحكم بها، إذ لا يمكن أن يُطلب من إنسان أن يؤدي فاصلاً من الضحك أو البُكاء، بالضد من إرادته، و كأنه يؤدي أي عمل من الأعمال.
لكن في ظل الأنظمة الدكتاتورية القمعية تُصبح مثل هذه المشاعر مُلكاً للحاكم، بل من الواجبات الوطنية، التي يجب على المواطن أدائها، و إذا ما أحسن إستخدامها و التحكم بها، و جارى بها مزاج حاكمه، كانت بمثابة جواز عبور إلى الراحة و النعيم و الوقاية من الشرور، أما إذا أطلق العنان لمشاعره، كما هي، فقد يجلب لنفسه المتاعب التي لا تنتهي.

 

في كوريا الشمالية، التي تُطلق عليها سوريا، خلافاً لدول العالم، إسم كوريا الديمقراطية، مع العلم أن السلطة إنتقلت فيها وراثةً من الأب إلى الأبن و مؤخراً إلى الحفيد، بطريقة معاكسة تماماً لألف باء الديمقراطية، هناك عوقب مجموعة من المواطنين لأنهم فشلوا بإظهار كمية من الحزن تعادل وزن مناسبة كرحيل الرئيس الكوري، فتم الحكم عليهم بعقوبات، منها العمل القسري لمدة شهور في أماكن مخصصة لمثل هذه الإجراءات العقابية، و بذلك برهن النظام الكوري الديمقراطي بأن مشاهد الحزن و البكاء و النواح و العويل على الزعيم الراحل، التي بثها تلفزيونه، لم تكن سوى مشاهد تمثيلية، إخرجها النظام، و إشترك فيها مجموعة من الناس المقهورين، بعد إرغامهم على ذلك، بإخافتهم من العقاب.
أما في سوريا، فكم أُضطر المرء إلى الضحك و هو يشعر بالغيظ، و كم أُضطر لإظهار حزنه و هو يشعر بالشماتة، و كم أُضطر للتلاعب بمشاعره، و تغيير ملامح وجهه، لكي يجنب نفسه و أقربائه الهلاك، كم أُضطر المواطن للهتاف بحياة القائد و هو يتمنى له قِصر العُمر، و كم خرج في مسيرات التأييد و هو من أشد المعارضين، و كم أُضطر لإخفاء هستيريا الفرح التي أصابته عند رحيل الدكتاتور بسبب الخشية من أزلامه، و كم أجبر نفسه على الحديث عن حكمة القائد و هو يرى الغباء متجسداً فيه بأوضح صوره.
و قد روى أحد الأصدقاء حادثةً لا تخرج عن هذا المعنى، ففي إحدى مناسبات النظام السوري، و كان الناس يقومون كالعادة في تلك المناسبات بالمزاودة على بعضهم البعض من خلال رسم الإبتسامات العريضة و التصفيق الحاد و الهتاف العالي، كان أحدهم في وادٍ آخر، و لم يستطع لسببٍ ما مجاراة الآخرين في نفاقهم، و بعد أيام قليلة أُستدعي للتحقيق، إذ يبدو أن أحدهم قد (سلخه) تقريراً، لكن الرجل نجا من المشكلة، بعد أن وعد بأن يعوض ما حصل منه من تقصير في مناسبة قريبة قادمة، و فعلاً راح منذ تلك اللحظة يمهد للمناسبة المقبلة بقصفٍ من الوطنيات، و عندما حان الوعد، و كان الوقت صيفاً شديد الحرارة، تصدى الرجل للدبكة كأحد فرسانها، و لم يتركها لحظةً، و كانت عينيه تتنقل خلال ذلك و هو يتصبب عرقاً بين الحضور، و كأنه يبحث عن غريمه الذي سيقوم بكتابة التقرير التالي، عساه يتلطف بحاله.

و عندما سألت عما حدث بعد ذلك قيل لي، بأن الرجل عبر الإمتحان، و لكن قالوا له حرفياً بأنه كان يجب أن يصل بدبكته إلى مرحلة (ينخ) فيها كالجمل.
إن الرعب الذي غرسه النظام جعل النفاق و الإنتهازية و غيرها من النقائص تسود في كثيرٍ من مجالات الحياة، حتى في صفوف المعارضة، في العلاقات التي سادت بينها، و ذلك من أجل التسلق و الوصول إلى غايات دنيئة، يعجز الإنسان من الوصول إليها في حالة الصدق، فكم من سكرتير حزبٍ أُضطر للكذب و إخفاء حقيقة مشاعره أمام أعضاء حزبه ليستمر في قيادة الحزب، و كم من عضوٍ حزبي أُضطر للكذب على قيادته و حزبه و رفاقه و هو يخفي عدم إيمانه بالحزب و مبادئه ليتسلق على ظهورهم، و كم من حزبٍ أو جماعة كذبت على أُخرى و دخلت معها في تحالفات لتوقعها و لتقضي عليها لتنفرد وحدها بالساحة، و كم من سكرتيرٍ حزبي حفر لزملائه (السكرتيرات) و نشر عنهم الإشاعات ليقصيهم.
منذ بدء الثورة السورية بدأ الناس يُظهرون حقيقة مشاعرهم، أسقط أطفال درعا حاجز الخوف، و أصبح الشعب يريد إسقاط النظام، أصبح يقول ذلك جهاراً نهاراً بصوته العالي، دعى الشهيد مشعل تمو الشعب إلى البصق في وجه جلاده في وضح النهار، صار الناس يفرحون من أعماق قلوبهم و هم يرون النظام يترنح، و يحزنون من أعماق قلوبهم أيضاً على الشهداء الذي يضحون بأنفسهم في سبيل ذلك، و يقيمون لهم مظاهرات العزاء، رغم التضحيات الغالية.
عندما يأخذ النظام السوري معه جميع الرذائل التي غرسها إلى مزابل التاريخ، و عندما يصبح بإمكان الناس التعبير عن مشاعرهم بصدق، حينها فقط يمكن القول أن الثورة قد إنتصرت.
jelebi@hotmail.de

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اعتبر الزعيم الكوردي رئيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني مسعود بارزاني، يوم الجمعة، أن الارضية باتت مهيأة لإجراء عملية سلام شامل في منطقة الشرق الأوسط للقضية الكوردية. جاء ذلك في كلمة ألقاها خلال انطلاق أعمال منتدى (السلام والأمن في الشرق الأوسط – MEPS 2024) في الجامعة الأمريكية في دهوك. وقال بارزاني، في كلمته إنه “في اقليم كوردستان، جرت الانتخابات رغم التوقعات التي…

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…