عن جرح عامودا الذي لن يبرأ و لن يبرُد

حسين جلبي

أكثر المُدن الكُردية السورية ذاكرةً هي عامودا، و أقرب الكُرد السوريين إلى القلب هم العاموديين، فالمدينة هي مسلة زمنية مُتحركة يُمكن لباقي الكُرد حيثما تواجدوا، و بسهولة، قراءة يوميات مواطنيها المدونة عليها، حتى أن كل كلمة قد يُطلقها العامودي، و إن كانت في لحظة مرح، قد تُصبح حكمةً أو أُمثولةً أو طرفةً تجوب الآفاق و يتداوالها الكُرد في كل زمانٍ و مكان.

لكن الحدث العامودي الأخير كان بلون الدم، فقد خيم على المدينة، و لا يزال، شبحٌ أسود لم تعرفهُ من قبل حتى أنه ُغطى على بعض محطات تاريخها الذي شارك في صناعته الفرنسيون مرتين على الأقل، واحدة منهما عندما قصفها طيرانهم إبان عهد الإنتداب الفرنسي على سوريا، و مرةً عبر حريق سينما المدينة الذي أودى بحياة العشرات من أطفال مدارسها أثناء حضورهم فيلماً دعماً لثورة الجزائر إبان الإحتلال الفرنسي للدولة المغاربية،
 فرغم أن عامودا في قلب الثورة السورية، إن لم تكن قلبها الكُردي، فقد بدى الأمر و كأن النظام يستيقظ للتو، بعد أكثر من سنتين من عمر الثورة، على خطورة شعاراتها و فعالياتها السلمية التي هزت أركانه في كل مدينة و قرية سورية، بدى الأمر و كأن ما كان يجري فيها مُنذُ بدء الثورة مُجرد مناوشات أو مُكاسرات كلامية رغم أثمانها الباهظة دماً و تهجيراً و إختطافاً و إعتداءاتٍ نفسية و جسدية.

كان إعتقال ثلاثة نشطاء ينتمون إلى مُختلف جهات الحراك المدني في عامودا هو بداية المجزرة الأخيرة، فقد قام مُسلحي حزب الإتحاد الديمقراطي الموالي للنظام السوري، و الذين يُعرفون (بالأسايش) أي الأمن، و جرياً على عادات النظام في التعامل مع ثوار سوريا، بتوجيه تهم أخلاقية مُسيئة للنشطاء و الثورة من قبيل التعامل بالمُخدرات و إثارة الفتن و الخيانة و غير ذلك، حيثُ جرى إعتقال أولئك النشطاء على خلفية تلك الإتهامات، و في الوقت الذي كانوا يتعرضون فيه لتعذيبٍ وحشي حسب شهادة الناشط ديرسم عُمر المُفرج عنهُ لاحقاً، كان يجري إغتيالهم معنوياً في الشارع الكُردي لتقديم عبرة للناس و جعلهم يمضون إلى شؤونهم اليومية، لكن عامودا قررت وقف النسخة الكُردية من مهازل النظام، فتم الإعلان عن بدء إعتصامٍ حتى الإفراج عن المُعتقلين الثلاثة، ثم ما لبث أن تحول إلى إضرابٍ مفتوح عن الطعام إنضم إليه العشرات من شابات و شُبان عامودا.
و هكذا وجد حزب الإتحاد الديمقراطي الذي هو جزء من حزب العمال الكُردستاني التركي، و الذي يضع يدهُ على بعض الشأن الكُردي حيثما تواجد الكُرد بموجب عملية إستلام و تسليم بينهُ و بين النظام، وجد نفسهُ في موقفٍ يشبه موقف النظام السوري من المظاهرات السلمية في المُدن السورية عندما بلغت أوجها، فالتراجع عن إتهاماته للناشطين و إطلاق سراحهم يعني مُجدداً إراقة مياه وجهه المُراقة قبل ذلك آلاف المرات، و يعني كذلك ضياع هيبته التي بناها بفوهة البندقية الأسدية، و هكذا مرت الدقائق ثقيلةً عليه إنتظاراً لحل لا يأتي لوحده و لم يأتي عبر محاولته اليائسة فك عضض المعتصمين و المتظاهرين من خلال إستمرار آلته الإعلامية في بث الأكاذيب المسيئة لهم إلى أن قرر أخيراً، و كما فعل النظام السوري، الهروب إلى الأمام بالأسلوب المعروف في مثل هذه الحالات، فقام بإطلاق النار على المظاهرة المتوجهة إلى خيمة الإعتصام و مهاجمة المعتصمين أنفسهم بمختلف الأدوات الحادة و حرق خيمتهم و من ثم تطويق عامودا و إعتلاء قناصتهُ لأسطحة منازلها و إطلاق النار على المواطنين العزل فيها و فرض حظر التجوال على سكانها، مما نجم عنهُ سقوط ستة شهداء و عشرات الجرحى إضافة إلى مئات المعتقلين، هذا إضافةً إلى إقتحام مكاتب بعض الأحزاب الكُردية و منظمات المجتمع المدني و حرق بعضها في عامودا و غيرها مثلما حدث لمقر منظمة (روني) في القامشلي و التي تهتم بشؤون المرأة و الطفولة، و قد تم إستخدام العنف مع المتظاهرين الكُرد في مُدن أُخرى خرجت تأييداً لعامودا.
الحقيقة أن المجزرة التي أُرتكبت في عامودا لا تختلف عن المجازر التي ينفذها النظام الأسدي في أيّ مكانٍ من سوريا، إلا أن وقع الصدمة على البعض كان كبيراً كونهم كانوا يحاولون دائماً تجاهل واقع أن حزب الإتحاد الديمقراطي هو جزء من منظومة النظام السوري في المنطقة الكُردية، و إن مسؤولي هذا الحزب سيتورعون بسبب لسانهم الكُردي عن تنفيذ أجندة النظام إذا كان ثمن تنفيذها دماً كُردياً، و هو ما أثبتت مجزرة عامودا عدم صحته.

إن قانون الفوضى الذي يسود المنطقة الكُردية حالياً يجعل الباب موارباً على كل الإحتمالات بما فيها إستمرار عمليات القتل و الخطف ضد النشطاء الكُرد، إذ لا شئ يردع مسؤولي حزب الإتحاد الديمقراطي الذين لا يفهمون لغة البيانات و التنديدات و المُناشدات، إلا أن ما سيحدث من تطورات، سواء أكانت إيجابية أم سلبية، لن تُغير مما حدث شيئاً، فلقد دخلت المجزرة بضحاياها و مُجرميها تاريخ المدينة، الأولون منهم سجلها المُشرف، في حين يتوجب و لإسدال الستار على الفصل الأخير للمجزرة تقديم القتلة إلى محاكمة عادلة.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

خالد حسو إن مسيرة الشعب الكوردي هي مسيرة نضال طويلة ومستمرة، لم تتوقف يومًا رغم الظروف الصعبة والتحديات المتراكمة، لأنها تنبع من إرادة راسخة ووعي عميق بحقوق مشروعة طال السعي إليها. ولا يمكن لهذه المسيرة أن تبلغ غايتها إلا بتحقيق الحرية الكاملة وترسيخ مبادئ العدالة والمساواة بين جميع أفراد المجتمع، بعيدًا عن أي شكل من أشكال التمييز القومي أو الديني…

مسلم شيخ حسن – كوباني يصادف الثامن من كانون الأول لحظة فارقة في التاريخ السوري الحديث. ففي مثل هذا اليوم قبل اثني عشر شهرًا انهار حكم عائلة الأسد بعد أربعة وخمسين عاماً من الدكتاتورية التي أثقلت كاهل البلاد ودفعت الشعب السوري إلى عقود من القمع والحرمان وانتهاك الحقوق الأساسية. كان سقوط النظام حدثاً انتظره السوريون لعقود إذ تحولت سوريا…

زينه عبدي ما يقارب عاماً كاملاً على سقوط النظام، لاتزال سوريا، في ظل مرحلتها الانتقالية الجديدة، تعيش واحدة من أشد المراحل السياسية تعقيداً. فالمشهد الحالي مضطرب بين مساع إعادة بناء سوريا الجديدة كدولة حقيقية من جهة والفراغ المرافق للسلطة الانتقالية من جهة أخرى، في حين، وبذات الوقت، تتصارع بعض القوى المحلية والإقليمية والدولية للمشاركة في تخطيط ورسم ملامح المرحلة المقبلة…

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…