لعبة الأمم فوق أنقاض الشرق الأوسط

ماهين شيخاني

المقايضات الدولية ومصير الشعوب بين التصفية وإعادة التشكيل

لم يعد من المبالغة القول إنّ الشرق الأوسط يعيش اليوم واحدة من أكثر مراحله خطورة وتعقيداً منذ قرن على الأقل. فمنذ اتفاقية سايكس– بيكو وما تبعها من تقسيمات مصطنعة، والمنطقة لم تخرج من دوامة الصراع، لكن ما يحدث اليوم يتجاوز كل ما سبق: انهيارات متسارعة، حروب بالوكالة، تدخلات دولية مكثفة، وخرائط ذهنية جديدة تُرسم في الغرف المغلقة بينما شعوب المنطقة تتحول إلى مجرد أرقام في سجلات النزوح والضحايا.

السؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح: هل نحن أمام لعبة دولية كبرى لإعادة صياغة الشرق الأوسط..؟. وهل يجري عقد صفقات ومقايضات خطيرة بين القوى العظمى لتصفية الحسابات على حساب دماء شعوب المنطقة..؟.

 

لعبة المصالح… لا مكان للأخلاق

السياسة الدولية لم تكن يوماً ميداناً للأخلاق أو العدالة، بل ميداناً للمصالح والقوة. الولايات المتحدة، روسيا، الصين، وأوروبا ليست سوى لاعبين كبار على رقعة واحدة، يستخدمون وقائع الشرق الأوسط كأوراق ضغط متبادلة.

في سوريا، تحولت الأرض إلى ساحة تجريبية للصواريخ والطائرات المسيّرة، ومختبر لموازين القوى.

في العراق، تتجاذب النفوذ بين واشنطن وطهران، بينما تُترك الدولة الممزقة غارقة في الفساد والانقسامات.

في فلسطين، يختلط الدم اليومي مع صفقات السلاح والدبلوماسية، ويُترك الشعب الأعزل وحيداً في مواجهة آلة الحرب.

كل هذا يجري بينما العواصم الكبرى تبتسم لبعضها في قاعات المؤتمرات، وتبرم صفقات في الخفاء: نفط مقابل تنازلات سياسية، سلاح مقابل صمت على مجازر، دعم لأنظمة مقابل تطبيع جديد أو تحالفات إقليمية.

المقايضات الكبرى

المراقب الدقيق يرى أنّ الشرق الأوسط اليوم ليس سوى سوق للمقايضات الدولية:

النفط والغاز: تُطرح خريطة جديدة للطاقة، من شرق المتوسط إلى كردستان العراق والخليج، حيث يتم تبادل الصمت الدولي على الجرائم مقابل ضمان التدفق الآمن للموارد.

 

الأمن مقابل البقاء: أنظمة تتنازل عن جزء من سيادتها أو ثرواتها مقابل حماية كرسي الحكم.

إسرائيل كرقم ثابت: يتم إدماجها تدريجياً كقوة مركزية في المنطقة، في ظل تحولات تضع الفلسطينيين في أضعف مراحلهم التاريخية.

 

الملف الكوردي: ورقة ضغط ومساومة تُستخدم بين واشنطن وموسكو وأنقرة وطهران، دون أن يُسمح للشعب الكوردي بحق تقرير مصيره.

 

شعوب تدفع الثمن

المأساة أنّ الضحية الأولى والأخيرة هي شعوب المنطقة. ملايين النازحين، مئات الآلاف من القتلى، اقتصادات مدمرة، وأنظمة صحية وتعليمية منهارة. لقد تحولت المجتمعات إلى مجرد ساحات لتصفية حسابات الآخرين. في المقابل، يجري تسويق خطاب “الحرب على الإرهاب” و”إعادة الاستقرار” كمظلة شرعية لتبرير كل تدخل دولي أو إقليمي.

 

هل هناك أفق آخر..؟.

رغم سوداوية المشهد، إلا أنّ التاريخ يعلمنا أنّ الشعوب ليست أبداً خارج المعادلة. قد تستغرق الصحوة وقتاً، لكن إرادة التحرر والعيش الكريم أقوى من كل الخرائط المصطنعة. التغيير الحقيقي لن يأتي من العواصم البعيدة، بل من داخل المجتمعات نفسها: وعي سياسي، وحدة داخلية، ونبذ الانقسام المذهبي والقومي الذي طالما استُخدم كأداة للتحكم والتمزيق.

 

كلمة أخيرة

نعم، هناك لعبة دولية خطيرة تُدار اليوم فوق أنقاض الشرق الأوسط. نعم، هناك مقايضات وصفقات تُبرم خلف الأبواب المغلقة. لكن الخطر الأكبر أن نستسلم لفكرة أنّنا مجرد بيادق بلا حول ولا قوة. ما يجري قد يكون مقدمة لإعادة تشكيل خرائط ، ولكن صوت الشعوب إذا اتحد قد يقلب الطاولة، أو على الأقل يفرض نفسه كرقم صعب في معادلة لا تزال تُكتب بالدم والنار.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…