المحامي حسن برو
منذ أكثر من قرن سمت اتفاقية سايكس–بيكو (1916) حدود الشرق الأوسط الحديث فأنشأت دولا وقطعت مجتمعات موحدة كانت تعيش في أكثر من حدود الدول الحالية ، وفرضت خرائط لم تستند في جوهرها إلى مكونات الهوية تلك المجتمعات وشعوبها ورغم التغيرات العميقة التي شهدتها المنطقة منذ ذلك الوقت، بقيت تلك الحدود مقدّسة نظريا، ومحل صراع عمليي ولكن السنوات الأخيرة حملت إشارات متزايدة إلى أن هذه الخرائط لم تعد ثابتة كما كانت، وأن التعامل معها بات خاضعًا لمعادلات القوة على الأرض.
في هذا المجال تبرز تصريحات رجل الأعمال والمستشار السياسي المقرب من إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، توماس باراك الذي يشير بشكل واضح إلى أن دولا عديدة في الشرق الأوسط لم تنجح في التحول إلى دول قومية بالمعنى الحديث. فبحسب باراك ما زالت السلطة الفعلية في أجزاء كبيرة من المنطقة قائمة على البنى القبلية والعشائرية والطائفية وهي مكوّنات كما يصفها تنتمي إلى مرحلة ما قبل الدولة الحديثة، ووفق تحليله فإن كيانات نشأت بفعل اتفاقيات استعمارية لم تستطع بناء هوية جامعة أو عقد اجتماعي صلب أو مؤسسات ديموقراطية، ما جعلها عرضة للتصدع كلما تبدّل ميزان القوى أو تعطلت شرعية السلطة المركزية.
فاسرائيل تحاول إعادة رسم الخرائط وهو مايلفت توم باراك إليه في نقطة أكثر حساسية ، أي أن إسرائيل لا تتعامل مع الخرائط التاريخية للمنطقة كأمر نهائي فمنذ عقود، اعتمدت إسرائيل سياسة “الوقائع على الأرض” توسّع استيطاني مناطق عازلة، سيطرة مباشرة وغير مباشرة واتفاقيات أمنيةوتفاهمات ترسم جغرافيا سياسية تختلف عمّا حدده الاستعمار الأوروبي قبل مئة عام. بهذا المعنى فإن إسرائيل كما يرى باراك تعيد صياغة الخريطة فعليا، وليس نظريا.
ويشير إلى أن الحروب الإسرائيلية في المنطقة ليست فقط عمليات عسكرية، بل مشاريع هندسة سياسية وجغرافية تخلق واقع جديد لا يشبه مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى. من هنا يصبح الحديث عن “حدود سايكس–بيكو” أقل أهمية أمام تحالفات وتقسيمات عملية تتشكل خطوة بعد أخرى.
واما بالنسبة للملف السوري تتسرب تقارير متواترة عن تواصل دبلوماسي أمريكي – سوري غير معلن وعن احتمال دخول شخصيات سورية بارزة إلى مسار تفاوضي جديد يشمل مستقبل سوريا والعلاقة مع إسرائيل ، ورغم غياب تأكيد رسمي من واشنطن أو دمشق، تشير التحليلات إلى أن إدارة ترامب قبل مغادرتها في جولتها الماضية ، كانت تبحث عن تفاهمات أوسع تتضمن ترتيبات أمنية على الحدود، وتفاهمات اقتصادية بل وعودة تدريجية لبعض القنوات السياسية المغلقة منذ اندلاع الأزمة السورية عام 2011.
وبحسب ما يتردد في الأوساط السياسية فإن اللقاءات المحتملة قد تكون جزءا من صفقة شرق أوسطية شاملةحيث يجري الحديث عن إعادة تعريف دور الدولة السورية، والتعامل مع النفوذ الإيراني، واستعادة الاستقرار الحدودي مع إسرائيل في المقابل سيتم تخفيف العقوبات أو إعادة دمج تدريجي في النظام الإقليمي.
اما تحولات المنطقة بالنسبة الدولة القومية التي تشكلت بعد تقسيم سايكس – بيكو يلاقي صعوبة أمام اختبار البقاء
فما يطرحه باراك وما تجسده الوقائع الميدانية في سوريا والعراق ولبنان، يقود إلى سؤال محوري:
هل دخل الشرق الأوسط عصر ما بعد الدولة القومية؟
الإجابة ليست بسيطةلكن المؤشرات تدل على تشكل دول بسلطات متوازية. أي على شكل “حكومات رسمية، قوى محلية، فصائل مسلّحة، هويات فرعية”.
حدود لا قدسية قابلة للاختراق سياسيا وعسكريا.
ومجتمعات تتشكل خارج إطار الدولة المركزية مثل مجالس محلية، إدارات ذاتية وسلطات أمر واقع.
اي ان التدخلات الاقليمية ترسم السياسات أكثر مما تصنعه العواصم الرسمية.
ومع ذلك فهذا لا يعني بالضرورة انهيار الدول، بل قد يعني نشوء نماذج سياسية جديدة
اتحادات، لا مركزيات عميقة أو كيانات (اجتماعية – اقتصادية) متداخلة تتجاوز الحدود التقليدية.
فتصريحات توماس باراك تظهر جزء من الخطاب السياسي الامريكي يقرأ المنطقة بعيون استراتيجية لا تاريخية ، فما يهم واشنطن كما يبدو ليس الحدود المكتوبة على الورق بل واقع القوة، وشركاء النفوذ والأنظمة القادرة على الاستقرار. وفي المقابل، تعمل إسرائيل وفق المنطق ذاته ولكن تعتمد على. بناء خرائط متحركة وتفاهمات آنية، وتمركز استراتيجي في جغرافيا ما بعد سايكس–بيكو.
الشرق الأوسط اليوم أمام مرحلة إعادة تعريف دول تعيد بناء نفسها دول تتفكك وأخرى تعاد صياغتها.
ولعل ما يطبخ خلف الأبواب المغلقة، سواء في واشنطن أو موسكو أو تل أبيب هو أكبر بكثير مما يقال في البيانات الرسمية.