قراءة في الثالوث المحرم الجديد في سوريا

زينه عبدي

منذ عقود طويلة من الصمت العفلقي، بقي الخطاب السياسي السوري، ولايزال، على هيئة مأساة وتهالك محكوم بالثالوث المحرم من الطائفة والسلطة والهوية القومية. 

ثلاث ركائز مُنعِت من الحوار والنقاش العام، بل وجُرِّم التفكير بها بوصفها تهديداً مباشراً للبنية التحتية التي أقيمت عليها الدولة الأمنية لمنع الشعب من مساءلة السلطة، والحديث عن محور الطائفية، أو الاعتراف بالهويات المحلية الأخرى ولا سيما الكوردية منها، فكل حديث عن الكورد وقضيتهم كان، ولايزال، بنظرهم تمرداً على الوحدة الوطنية ومثيراً للفتنة الطائفية.

الثالوث بعد 2011

ثقافة الصمت أو الخوف داخل المجتمعات السورية لم تكن خياراً في ذاك الوقت، بل شرطاً جزائياً ومسبقاً للبقاء والعيش في ظل نظام أمني يفرض ما يمكن قوله وما لا يمكن. إلا أن هذا الثالوث تصدَّع مع بدايات 2011، ولايزال مستمراً إلى يومنا هذا في ظل المرحلة الانتقالية الحالية التي من المفترض أن تؤسس لمرحلة جديدة، حيث الانكسار التام لحائط المحرمات، فانهالت التساؤلات مجدداً طارقةً الأبواب حول الأمور المكبوتة فيما يتعلق بالمعنى الحقيقي للوطن، وشكل الدولة السورية القادم، والحوار الوطني الجامع لكل المكونات السورية وحقها في المشاركة والتمثيل الحقيقي بما يضمن الاعتراف المتبادل.

ولا تعتبر القضية الكوردية إحدى أهم الملفات التي تعكس عمق التشظي الوطني السوري فحسب، بل تمثل قلب الأزمة السورية في قلب الموازين وتشييد دولة حقيقية تعترف بالتعدد والتنوع، خلافاً لما كانت عليه منذ ستينيات القرن الماضي، حيث التصدي لأي حديث عن الحقوق الثقافية والقومية، بل ومجرد الحديث عن القضية الكوردية لاسيما في مؤسسات الدولة ومنها المدارس والجامعات والوسائل الإعلامية يعد تعدٍّ سياسي يمس جوهر السيادة الوطنية السورية، وربطه بمسميات الانفصال رغم حرمان الآلاف منهم من الجنسية السورية ولايزالون.

مع الدخول بمرحلة جديدة من الصراعات المباشرة خلال الأزمة السورية، أعيد إنتاج الخوف السياسي بصيغ مختلفة عبر سلطة تحاول بشتى الوسائل ممارسة ثقافة الحجب والصد تحت مسمى الوحدة الوطنية أو وحدة الأراضي السورية أو المصلحة والهوية الوطنية. لكن هذا المحرَّم انكسر بشكل جزئي وتفكك معه حاجز الصمت الخفي، فالكورد قد بدؤوا بتشكيل مؤسسات خاصة بهم هوياتيا، ما أشار إلى تنظيمهم المدروس والمخطط إداريا وسياساً، لكن هذا الانكسار ظل جزئياً بسبب خوف أطراف عدة في البلاد من توجيه الاتهامات لها بتفكيك الوحدة الوطنية والتعدي على سيادة الدولة السورية وتقويضها أو لربما حفاظاً على مصالحها ونفوذها في ظل الفوضى وحالة التشرذم الشاسعة التي سيطرت على البلاد.

المرحلة الانتقالية

لا تعني المرحلة الانتقالية في سوريا أنها مجرد تشكيل سلطة جديدة أو تبديل بالأدوار والوجوه السياسية، بل من المفترض أن تعي بمرحلة أوسع في فلك الوطنية الجامعة التي تقبل الآخر المختلف، والوعي به متجاوزة التعقيدات البنيوية التي قيَّدت الشعب السوري على مدد زمنية طويلة فتكت بعقولهم ووجودهم وعلى وجه الخصوص الوجود الكوردي في المناطق الكوردية وأيضاً النسبة المتواجدة على الجغرافيا السورية برمتها.

ستظل الهوية الكوردية أسيرة الثالوث المحرم (السلطة، والطائفة، والقومية) ما لم تتغير النظرة والرؤية نحو المفهوم الهوياتي والخطاب السياسي للدفع باتجاه انتقال حقيقي من مرحلة المنع بصورة مطلقة إلى مرحلة التعبير والمطالبة.

الآن وفي خضم المرحلة الانتقالية الراهنة، ومع تفكك الدولة البعثية والتحول في المسارات السياسية، تبلور ثالوث محرم بصيغة جديدة لكنه ذات محتوى مشابه في الخطابات العامة. فقد صار من العسير خلال هذه الفترة بل ومن المحظورات التفوه والحديث عن ثلاثة تابوهات أخرى في الملف السوري وأبرزها السلطات الانتقالية التي باتت تفرض خطوطا حمراء وفقا لعقليتها والمنهجية التي كانت قد خططت لها مسبقاً حول التحولات في شكل السلطات الحاكمة في سوريا حالياً وتأثيرها المباشر على الكورد، فالعقلية العفلقية لاتزال مستمرة مروراً بتحديثات جديدة تماشياً مع النمط القديم الذي يعتمد إقصاء الكورد، رغم التصريحات المباشرة والعلنية من السلطة الحالية عن حقوقهم المشروعة في الدستور واعتبارهم جزءاً لا يتجزأ من سوريا، إلا أن الأقوال والأفعال تسير نحو التضارب دون تنفيذ فعلي، ما يضاعف الشكوك ويبلور قلقا كبيراً لدى الكورد بسبب سياسات الإقصاء والتهميش التي مورست بحقهم منذ عقود.

باتت لغة الواقعية السياسية غطاءً للمصلحة الوطنية أو خوفاً من حدوث أي انشطار  حسب السلطات الانتقالية والمقربين منها، فمن المفترض أن تأتي المرحلة الانتقالية كداء يعالج ويشفي على هيئة مساحات تعزز الحوار الوطني الجامع في كافة الملفات المؤجلة ومنها القضية الكوردية، لكنها تبنت فكرة حماية نفوذ ومصالح الأطراف التي تسلمت الحكم انتقاليا دون مراعاة حقيقية عبر تطبيق فعلي يمس جوهر العدالة الانتقالية.

وجود العديد من القوى الخارجية في سوريا اليوم وتدخلاتها المباشرة فيها مثل تركيا، التي ترى في الكورد خصمها الأول والأخير داخل الجغرافيات التي يتواجد بها، والولايات المتحدة الأميركية وروسيا من المحظورات الانتقالية ضمن الخطاب السوري – السوري، فكل طرف سوري بات يتعامل مع أي قوة خارجية، حليفتها، وفقاً لمصالح تجمعهما، ما يعزز فكرة المحرمات ويمنع منعا باتا الحديث عنها أو انتقادها، بل وفي بعض الأحيان تعد الوصاية الخارجية حقيقة مقدسة يجرَّم المساس بها، ما كرَّس المفهوم الخاطئ للوحدة الوطنية وسيادة سوريا، ليتحول إلى شعار فقط موجه من سوري ضد خصمه السوري.

وفي ذات الإطار، لايزال الحديث عن العدالة الانتقالية والهوية الجامعة بما فيها الهويات المحلية وعلى رأسها الهوية الكوردية من أكثر المحرمات انتقالياً رغم أنها تعد أولى الركائز الرئيسية في عملية بناء سوريا الجديدة، إلا أنها تؤجَّل وباستمرار تحت مسمى “نود تأمين الاستقرار العاجل في سوريا” أو “مسار العملية السياسية وتعقيداتها” متجاوزين العمل الحي والحقيقي في مسألة العدالة التي تعتبر الخطوة الأساسية في عملية البناء وتفكيك حالة التشرذم التي يعيشها الجميع، رغم الجهود المبذولة منذ 8 كانون الأول وحتى الآن من قبل السوريين والسوريات بمن فيهم الكورد، فقد بذلوا منذ 2011 وحتى الآن جهوداً مستميتة وجبارة على الساحتين السياسية والعسكرية، إلا أن قضيتهم لاتزال على حافة الخطاب بين الإنكار تارةً، والاعتراف الجزئي الخفي في سياق الحوار والتفاوض تارةً أخرى، بمنأىً عن أي نقاش وطني يعترف بالكورد كثاني أكبر قومية في سوريا.

تفكيك الثالوث المحرم الجديد

إن تفكيك الثالوث المحرم الجديد في سوريا حالياً لا يعد ترفاً ورفاهية فكرية فحسب، بل حاجة ملحة وضرورية أخلاقياً وسياسياً لإنجاح المرحلة الانتقالية. فهذا الثالوث الجديد يعيدنا لفترة أشرس تعقيداً من ذي قبل، ويصد الخطوات التي من شأنها بلورة وولادة جديدة لسوريا التي عانت الأمر على مدار مدد زمنية طويلة في ظل النظام العفلقي والأسدي مروراً بالمرحلة الانتقالية الراهنة. فالسلطات الانتقالية تكرس الانشطارات والصراعات كقدر محتوم لا مفر منه إطلاقاً، وتأجيل العدالة الانتقالية رغم أنها العامل الأكثر تأثيرا وفعالية في مسائل بناء الثقة بين السلطات والشعب السوري وما يرافقها من مصالحة وطنية، ويضاف إليها محور التدخلات على المستويين الإقليمي والدولي الذي بات اللاعب الأشرس والأخطر في كيفية طرح القرارات الوطنية وجعلها رهينة اتفاقيات تضمن نفوذ ومصالح الآخرين.

إن مسار التفكيك لابد له أن يمر مرورا عميقاً بالوعي الوطني الجامع والشامل على مبدأ الاعتراف بهذه المحرمات بوصفها آلة تعيد إنتاج الخوف والتشرذم لدى السوريين والسوريات كما السابق. لذا فإن الخطوة الأمثل والأولى نحو عملية إعادة البناء الوطني واستعادة الحلول الممكنة في مسار العملية السياسية وإخراجها للنقاش العام بعد أن ظلت أسيرة الحجب تحت الركام لعقود، هي هدم هذه القيود وتحطيم البنية الهيكلية لها في محاولة للخوض الحقيقي في حوار يجمع لا يقصي خلافا لعقلية البعث التي أعتبرها هندسة حقيقية للإجرام دون كلل أو ملل خاصة فيما خطته بحق الشعب الكوردي من ممارسات استبدادية وقمعية شرسة.

وأخيراً، أعتقد أن الهدف الحقيقي، في ظل المرحلة الانتقالية بسوريا، للعبور نحو مستقبل أفضل يكمن في تبديد وإزالة المحرمات المتشكلة حديثاً، حيث مواجهة هذه المحظورات باتت ضرورة جدية لعملية البناء، ونجاحها المستنير يقاس بمدى تحرير السوريين والسوريات من خطاب الصمت والإنكار لتشكيل دولة جديدة على أسس العدالة والمواطنة والحوار وبمنأى عن المحرمات القديمة والجديدة على حدٍّ سواء.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…