دستور الفيرومونات.. النحل وكيمياء النظام وسقوط الخطاب!

إبراهيم اليوسف

لايرفع النحل راية لكنه يبني وطناً

إذ تسقط الأنظمة بفوضى الرأي، وتتهاوى الحكومات بثقل الشعارات، يُحلّق النحل دون راية، ولا نشيد، ولا هوية بصرية، ولا دستور مكتوب، لكنه، رغم ذلك، يشيد واحدة من أكثر الكيانات الحيّة استقراراً وانسجاماً. لا يعود ذلك إلى عبقرية فرد، ولا إلى حيلة جينية صمّاء، بل إلى كيمياء خفيّة تسري في الجسد كما تسري القيم في النفس الشريفة. إنه نظام تُديره الفيرومونات لا الزعامات، وتنسجه الوظيفة لا الولاء الأعمى، وتحكمه الحاجة لا الخطابة.

لا أحد في مجتمع النحل، ينتظر من الآخر تأكيد انتمائه. لا يطلب أحد من أحد أن يصفّق، أو يُبايع، أو يكتب منشورًا على الحائط الداخلي للخلية. كل فرد فيها يعرف ما عليه، دون أن يراجع نفسه، ولا أن يسوغ لنفسه التقاعس بعبارة: “لماذا أبدأ إن كان الآخرون لا يفعلون؟”. لا وقت في النحل للفذلكة السلوكية، إذ إن الزمن هناك يُقاس بالزهرة لا بالتاريخ، وبالمدى الذي تقطعه الأجنحة لا بعدد الجمل الإنشائية التي يتلوها القائد على شعبه صباحاً ومساء، ويستظهر- ببغاوياً- من كل علم طرفاً، لينخدع به المغفلون متوهمين أنه خارق لأنه حارق محترق!

ملكة النحل لا تخطب ولا تُصفّق لها الجماهير، لكنها تحكم، ليس من منبر، بل من غدة. إذ إن السلطة الحقيقية لا تحتاج إلى شعارات كي تُقنع، بل إلى أثرٍ حقيقي يسري في الأجساد. الفيرومونات التي تفرزها الملكة، لا تُقنع العاملات بالكلام، بل تُلغى أمامها أسئلة التمرد أصلاً. والولاء في هذا السياق ليس خنوعاً، بل استجابة عضوية لما تمليه مصلحة الخلية. كم من قائد بشري حاول أن يحكم ببلاغة الصوت، وفشل لأنّ كيمياء الفعل لم تكن موجودة؟ وكم من أنظمة بنت دولاً من الخطابات الهشة، فإذا بها تنهار أمام أول اختبار للرحيق؟

العاملات لا تتداول النظريات، ولا تحب الجدل، بل تخرج كل صباح وتعود كل مساء، وبين الرحلتين، يتغيّر وجه الأرض. يأتين بالعسل، لا بالبيانات، وينقشن في هواء الحقول خرائط الطيران، لا خرائط الدعاية. حين تكتشف إحداهن زهرةً ممتلئة بالرحيق، لا تحتكره، ولا تخفيه، ولا تلتف حولها متباهية. تعود إلى الخلية وتؤدي رقصة صغيرة لا يُدركها إلا من يشبهها. وهكذا تُعلن الخبر دون كلمة، وتُطلق الإشارة دون مبالغة. رقصة قصيرة، لكنها تُحدّد الاتجاه، والمسافة، وكمية الرحيق، وكأنها تقول: “افعلوا كما فعلت، فالعسل لا يكذب”. هذا النوع من التواصل، المتقشّف في لغته، والغني في نتائجه، هو ما افتقدته المؤسسات التي تشبع من الكلام وتفقر في الفعل.

في أعمارهن القصيرة، لا تثبت العاملات في وظيفة واحدة. كما لا يوجد من تولد منظّفة وتموت كذلك، ولا من تولد حارسة ولا تتغير. إذ إن الوظائف تتبدّل، والقدرة هي المعيار الوحيد. في الأيام الأولى، تُنظّف النحلة أرض الخلية، ثم ترعى اليرقات، ثم تحرس، ثم تجمع الرحيق. كل دور له موعده، ولا أحد يحتكر مهمة. وهكذا يكون العمر، لا الرتبة، هو ما يُحدّد المسار، كأنّ النحل يلقّننا درساً خافتاً في استحقاق المراحل. كم من شخصٍ تمّ تجميده في وظيفة لا تناسبه، فقط لأنه عُيّن فيها ذات يوم؟ وكم من مواهب ذبلت لأنها لم تُنقل إلى المكان الذي تحتاجه وتستحقه؟ في النحل، لا مكان لهذا الموت البطيء.

لا يخرج النحل على ملكته، ولا يثور. لكنه حين تضعف قدرتها على الخصوبة، لا يُعلن انقلاباً، ولا يكتب بياناً في الصباح الباكر. العاملات يُهملنها بهدوء، يتجاهلن وجودها، ويبدأن في تربية أخرى من الهلام الملكي ذاته. لا شتائم، ولا تصفية، ولا حملة إعلامية. فقط انسحاب ناعم، وانبثاق مهيب. وهكذا، تتغيّر القيادة من داخل الخلية، لا من خارجها، وتبقى الخلية حيّة لأنّ الفرد ليس أهمّ من المنظومة. هذا الشكل من الانتقال الطبيعي للسلطة، يفضح عشرات الأنظمة التي تُفضّل خراب الوطن على خسارة الكرسي.

النحل لا يُصنّع المعرفة، بل يُجسّدها. يعرف أكثر مما يتكلم، وينجز أكثر مما يُخطّط. لا يحمل ملفات، ولا يرسم مخططات استراتيجية، لكنه في كل صباح يبدأ البناء من جديد، في خلية سداسية الشكل، كأنها وحي هندسي من الطبيعة ذاتها. السداسي ليس زينة، بل ضرورة. هو الشكل الوحيد الذي يُتيح الحد الأقصى من التخزين، والحد الأدنى من الهدر، بأقلّ قدر من الجهد. هكذا تُبنى خلايا النحل: لا عبث في الزوايا، ولا فراغ في المنتصف، ولا حاجة لمهندس يراجع الخطط كل أسبوع. فقط نظام يعمل لأنّه وُضع ليعمل، لا ليُعجب.

لا يحتاج النحل إلى دستور لأن النظام فيه يبدأ من الداخل. لا يعلّق صوره، ولا ينحت تماثيله، ولا يُخيف الخارجين عن الطريق، لأن الخروج أساساً لا يحدث. وإذا خرج، فإنّ الحياة تفصل الخارج بهدوء، بلا جلبة. الذكور الذين لا يُخصّبون الملكة، يُطردون عند أول شتاء. لا محاكمات، ولا لجان تحقيق، فقط انتهاء الحاجة يعني انتهاء الحضور. كأنّ الوجود ذاته مشروط بالوظيفة، لا بالجنس، ولا بالاسم، ولا بالماضي.

حين تُفرغ الأرض من الزهور، لا ينهبها النحل، بل يرحل. لا يُحرّق، لا يدمّر، لا ينتقم. فقط يُقلع عن المكان الذي لم يعد يطعمه. كأن النحل يفهم، دون أن يُقال له، أنّ احترام البيئة يعني البقاء فيها، لا السيطرة عليها. وهو بذلك يُربّي فينا خُلقًا نادرًا: “غادرْ إذا لم تعد قادرًا على أن تبني، لا تهاجم المكان الذي جعلك ذات يوم غنياً.

النحل لا يُفكّر في الكارثة، بل يشتغل لئلا تقع. لا يبني خططاً استباقية للهروب، بل يقوّي الخلية كي لا تنهار. وإذا انهارت، لا يبحث عن متّهم، بل يبني أخرى.

وفي نهاية المشهد، لا يسأل النحل: من يُحبّني؟ من يُصفّق لي؟ من يذكرني في الإعلام؟ بل يترك وراءه قطرة عسل واحدة، فيها كل سيرته، وكل معنى وجوده. وإن جفّت جناحاه في الهواء، لم يطلب رثاءً، بل تساقط، كما تسقط الأوراق النبيلة، التي أعطت ما فيها قبل أن تودّع.

من هنا، فإن عالم النحل ليس فضاءً للتأمل البيولوجي، بل مِرآة يمكن لها أن تعيد تشكيل المجتمعات. لا لأنها- أي المرآة-  تكرس الطاعة، بل لأنها تكشف كم يمكن للبساطة أن تُنتج ما عجزت عنه المجالس والأحزاب. فحين تُدير الفيرومونات خلاياها، لا يبقى للصوت العالي ثمة مكان. أي مكان، وحين يكون القانون هو الرَحيق، يصبح العدل شيئًا يُؤكل ويداوي. يبلسم، وليس شيئًا يُقال للتسويق أو الإعلان الرخيص!

 

* مراجع عدة عن عالم النحل

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…