زينه عبدي
منذ أكثر من ستة عقود زمنية في سوريا، وتحديداً في محافظة الحسكة، لايزال عشرات الآلاف من الكورد منزوعي الهوية. ملف الكورد الأجانب في هذه المنطقة بات ولايزال أحد أشد القضايا تعقيداً في ظل المشهد السوري الراهن.
فبموجب ما سمي بالإحصاء الاستثنائي 1962 جردت نسبة جسيمة من الكورد من الجنسية السورية، الأمر الذي أكسبهم صفة الأجانب ذات البطاقة الحمراء ضمن السجلات الرسمية للنظام السوري رغم الوثائق التي تؤكد وجودهم الأصلي في المنطقة منذ زمن بعيد إلى أن جاءت الاتفاقية السوداء (سايكس بيكو 1916)، وقسمت أرض كوردستان موزعة على أربع دول هي تركيا، سوريا، إيران والعراق.
هذا الإحصاء لم يكن مجرد إجراء محايد بشكل إداري، بل كان بداية لعملية ممنهجة من التجريد والإقصاء تركت آثاراً اجتماعية واقتصادية ومدنية وقانونية حتى يومنا هذا. ورغم مرور عقود وهروب النظام الأسدي وحتى وصولنا المرحلة الانتقالية الحالية، لاتزال هذه القضية معلقة بين المحاولات القانونية والصمت الحكومي، ما يعني أنها تمثل نموذجاً صارخاً وحقيقياً لمعضلة الهوية والمواطنة، التي لاتزال بين مد وجزر في سوريا، تلك المعضلة التي لا تعترف بهم كمواطنين ينتمون إليه، فسُجلوا كسوريين بلا رقم وطني امتدت مأساتهم المنسية في السجلات الورقية إلى الوجود والحضور في الذاكرة والتاريخ.
احصاء 1962
في التاريخ الكوردي، كان ولايزال الإحصاء الاستثنائي في محافظة الحسكة سنة 1962 أحد أعقد الملفات تأثيراً فيما يتعلق بالوجود الكوردي. حيث أصدرت الحكومة السورية بتاريخ 5 / 10 / 1962 مرسوماً تشريعياً ذات الرقم 93 لإجراء الإحصاء الخاص بسكان محافظة الحسكة، وذلك خلال يوم واحد فقط وبسرعة غير مسبوقة بذريعة عزل المواطنين الأصليين من سكان سوريا عن غيرهم من الدخلاء على البلاد، فقد طلب من الجميع وقتذاك وثائق وثبوتيات لم يكن بإمكان الكثير منهم توفيرها أو الحصول عليها لضيق الوقت، ما أدى إلى عدم تسجيلهم وبالتالي اعتبارهم أجانب وغير سوريين.
جاء هذا المرسوم رداً على مشهد ممتلئ بالصراعات الإقليمية والمحلية حول نضج ووعي بالقومية الكوردية بالتوازي مع الثورة الكوردستانية في جنوب كوردستان خلال شهر أيلول آنذاك، حيث يصحب هذا المرسوم معه مصالح قومية وسياسية مجردة من أية إجراءات تنظيمية أو خطوات إدارية.
كانت نتيجة الإحصاء مجحفة وظالمة لأكثر من مائة وعشرين ألف كوردي، فقد جردوا خلال 24 ساعة فقط من الجنسية السورية وسميوا بالمقيمين غير السوريين رغم أن نسبة كبيرة منهم قد أدوا واجبهم العسكري داخل الجيش السوري، والآخرين كانوا عاملين لدى الحكومة قبيل القيام بهذا الإجراء التعسفي بحق الكورد. بالإضافة إلى ذلك كانت هناك فئة تسمى بمكتومي القيد الذين لم يتاح لهم التسجيل بأي شكل ضمن السجلات الرسمية، فباتوا فاقدين لأي وجود قانوني على الجغرافية السورية.
هذا الإحصاء يوماً بعد يوم تحول من حدث عابر إلى مسار سياسي هدفه التغيير الديموغرافي بالمنطقة على المدى الطويل وتاريخ حافل بالحرمان الممنهج ضد الكورد. منذ ذلك الوقت وإلى الآن، يعامَل الكورد (الأجانب ومكتومي القيد) كفئة منزوعة الهوية والوجود ولا تتمتع بحقوق المواطنة على رأسها التعليم والتوظيف.
قانونياً وسياسياً
يعد هذا الإحصاء خرقاً قانونياً جلياً يتعارض مع معايير المواطنة، فقد جرى هذا الإحصاء بمنأىً عن أية أسس قضائية تمنح تلك الفئة الحق في الاعتراض عبر مسار قانوني للدفاع عن وجودهم، كما ويخالف المادة 15 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وفقاً للمنظور العالمي. ويتضارب أيضاً مع العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي وقعت عليه الدولة السورية عام 1969.
وعلى مدى عقود، كانت، ولاتزال، السلطات المتعاقبة في سوريا تتجاهل هذا الملف بل وتتجنب النقاش فيه مبررة ذلك بتداعيات أمنية وأخرى بالحساسية تجاه القوميات والمكونات في المنطقة. كل ذلك حوّل هذه القضية من مسار حقوقي إلى مسار سياسي يمارس سياسة التهميش مع المكون الكوردي، الأمر الذي دفع بالعلاقة بين الحكومة والشعب الكوردي نحو اللاحل. رغم طرح هذا الملف والمحاولات الجادة من الكورد السياسيين والحقوقيين في المحافل الدولية والمحلية، إلا أنها كانت تواجه بالتضييق والرفض. وظل هذا الملف كما كان عليه حتى بدء الأزمة السورية عام 2011 وصدور مرسوم تشريعي رئاسي ذات الرقم 49 ينص على منح الجنسية السورية للكورد الأجانب في محافظة الحسكة، إلا أن هذا الإجراء كان شكلياً على ما يبدو رغم أنه لاقى صدى إيجابياً بشكل عام ولكنه بالوقت عينه لم يكن قادراً على معالجة هذه المعضلة بشكل جوهري، حيث لم يتم ذكر فئة مكتومي القيد، وكان الغموض يرافق تطبيق المرسوم لاسيما قانونياً فيما يتعلق بالحقوق المدنية والاقتصادية على وجه الخصوص.
في السياق السياسي، تجنبت الحكومة السورية خوض النقاش في هذا الموضوع لأنها غير مستعدة للاعتراف بالتنوع القومي داخل سوريا. ولعبت التحولات والتغيرات السياسية في البلاد بصورة عامة دوراً سلبياً مقيتاً في آليات التعامل مع الهوية والقضية الكوردية بدلا من التعامل على أساس الرؤى الدستورية لمفهوم المواطنة والمساواة على كامل الجغرافية السورية.
بعد عام 2011، ظهرت الإدارة الذاتية الديمقراطية في روجآفا (شمال وشرق سوريا) لتطرح وتفتح هذا الملف من جديد استناداً لقانون قائم على مفاهيم المساواة والمواطنة اللامشروطة بالانتماء القومي، الذي كان ولايزال يفرض الهوية العربية شاء المكون الآخر أم أبى، إلا أن عدم كسب الإدارة الذاتية الاعتراف بشكل رسمي حدّ من المضي قدماً في هذه القضية رغم المحاولات الجادة لإيجاد حل ضمن الأطر القانونية والدستورية.
لم يكن التحول السياسي فقط هو من خلط الملفات السورية المحظورة، بل وعي الشعب السوري وانفتاحه على كافة القضايا المسكوت عنها بالإكراه من قبل نظام البعث العفلقي والأسدي آنذاك، ومن أشدها حساسية كان ملف الكورد الأجانب في محافظة الحسكة. لايزال هذا الملف معلقاً في ظل واقع قانوني أكثر غموضاً من سابقه وإلى الآن في ظل السلطات الانتقالية الحالية، وهكذا تظل هذه القضية الكوردية الشائكة نقطة جدل لم تُحسم بعد، وتبقى في خطوة الاعتراف الجزئي بين النظام السابق الذي لم يتناول الملف قانونياً أو دستورياً أو معالجتها بشكل جذري، وبين السلطة الحالية التي تحاول في مساعيها كسب الشرعية محلياً وإقليمياً ودولياً في خضم المشهد السياسي المعقد.
أثر التحولات الجيوسياسية
لعبت القضية الكوردية في سوريا دوراً جوهرياً في توليد وحشد موقف دولي حيال ملف شمال وشرق سوريا والتسويات المرتبطة بها على المستوى الإقليمي. هذه القضية لم تكن بمعزل عن السياق الإقليمي وإنما كانت ولاتزال متأثرة بالتحولات الجيوسياسية لاسيما في كل من سوريا والعراق وإيران وتركيا بسبب الامتداد التاريخي العابر للحدود فيما يتعلق بالقضية الكوردية والتطورات المرافقة التي انعكست ولاتزال بصورة تلقائية على ملف الكورد في سوريا. فقد تناولت العديد من المنظمات الدولية مثل العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش الخاصة بحقوق الإنسان ملف الكورد الأجانب في محافظة الحسكة وبشكل مستمر على اعتبار هذا الملف يعد من الانتهاكات الصارخة بحق الإنسان ولا يمكن أن يسقط بالتقادم.
ورغم الجهود التي بذلتها هيومن رايتس ووتش من توثيق لجميع حالات الحرمان من الجنسية السورية والتي وصفتها بالتمييز المؤسسي، ومنحها زخماً سياسياً وإعلامياً بشكل مؤقت، إلا أنها ظلت دون تأثير فاعل وحقيقي على الجذور القانونية، ومحاولاتها في تسليط الضوء عليه وإيجاد حل له كان ولايزال ذات تأثير مقيد نتيجة الحالة السورية الراهنة، وكذلك مدى جاهزية السلطات الانتقالية الحالية في سوريا للاعتراف بالمساواة بعيداً عن أي تفريق هوياتي أو قومي، وكذلك تداخلات الأطراف الإقليمية.
نحو مقاربة جديدة
في خضم التغيرات داخل المشهد السوري الراهن، ثمة حاجة ملحة للتأكيد على ضرورة تشكيل رؤية وطنية جامعة على أساس المواطنة متجاوزة المفاهيم ذات الصلة بالانتماءات القومية. فملف الكورد الأجانب في الحسكة لم يعد بمثابة مطلب حق شرعي وقانوني للكورد الذين حرموا من الجنسية السورية، بل يشكل تجربة لتقييم حقيقي على الأرض حول مدى استعداد سوريا الجديدة لتقبل تنوعها والاعتراف به عبر كتابة عقد اجتماعي جديد يكفل الحقوق والمساواة والمواطنة للجميع دون استثناء أو إقصاء.
إن حل هذه القضية ليس بالأمر السهل بسبب تقاطع السياسة مع حقوق الإنسان. المواطنة المجهضة والهوية الوجودية المسلوبة والمنقوصة تتطلب مزيدا من الحلول السياسية الحقيقية بشجاعة، وكذلك تكثيف جهود إصلاحية ملموسة تمنح هذه الفئة الحق القانوني والدستوري في انتمائهم لسوريا كأي مواطن سوري، والتغلب على فكرة حرمان الفرد من حقه في المواطنة بسبب قوميته وهويته. هذه القضية الحساسة تتخطى كونها مسألة قانونية فحسب، وإنما انعكاس حقيقي لتاريخ السياسة والمواطنة في سوريا.