الكرد… بين لعنة الجغرافيا وإرث التاريخ

ربيعة خطاب

منذ تأسيس الجمهورية التركية الحديثة عام 1923، شكّلت القضية الكردية أحد أعقد ملفات الدولة، إذ لم تكن مسألة أمنية أو عسكرية فحسب، بل انعكست على بنية الهوية الدستورية نفسها. وفي حديث خصّ به «الأيام نيوز»، قدّم أستاذ الفلسفة السياسية في جامعة كويا بكردستان العراق، «پ. د. سربست نبي»، رؤية متكاملة حول جذور الأزمة الكردية في تركيا، وعرض العوامل التاريخية والسياسية التي عمّقت الصراع بين دولة تركيا والأقلية الكردية.

أبرز التعديلات الدستورية المطلوبة لتعزيز مسار السلام وضمان حقوق الكرد

في حديثه لـ”الأيام نيوز”، تطرق پ. د. سربست نبي، أستاذ الفلسفة السياسية في جامعة كويا، إلى الإشكاليات الدستورية التي تعيق أي تسوية عادلة للقضية الكردية في تركيا.

وأكد أن جوهر الأزمة يكمن في طبيعة النصوص المؤسسة للجمهورية وما تكرّسه من إقصاء وتفوق هوياتي.

منذ صدور أول دستور بعد إعلان الجمهورية 1923 كرّست الدساتير التركية هوية الدولة وخصائصها على أساس تفوق عرقي هوياتي واضح، نفت وأقصت جميع اللغات والثقافات الأخرى وتنكرت لكل تعددية قومية أو تنوع ثقافي في تركيا. كرّست التعديلات الدستورية بعد الانقلاب العسكري 1980 هيمنة لغة واحدة وعنصر عرقي واحد وثقافة واحدة في المواد؛ الأولى والثانية والثالثة. وهي المواد، التي تتعلق بهوية الدولة وخصائصها والنظام السياسي. وعدّت هذه المواد الثلاث، التي تختزل في شعار (لغة واحدة، علم واحد، شعب واحد) بموجب المادة الرابعة (تعديلات 1982) مواداً مقدسة، فوق دستورية، لا ينالها التعديل، أو التغيير طبقاً لأية شرعية، وهذا الإقرار يتعارض بوضوح مع مبدأ السيادة في الدستور (المادة 6) الذي يعترف بأن السيادة للأمة. هذه المادة (الرابعة) والمواد السابقة عليها تعدّ مناط خلاف جوهري بين الأحزاب السياسية في تركيا، فضلاً عن رفضها والاعتراض من قبل حزب المساواة وديمقراطية الشعوب DEM party المؤيد للكرد وحقوقهم. كذلك تشكل المادة الرابعة هذه معضلة وعقبة كأداة أمام أي تعديل أو تغيير دستوري محتمل يتعلق بالمواد الثلاثة السابقة.

هكذا رسخت دستورياً اللغة والهوية والثقافة التركية على حساب بقية العناصر العرقية والقومية الأخرى، الأكثر قدماً وعراقة، كالكرد والأرمن والسريان واليونان، في تركيا، بالرغم من أن المادة العاشرة من الدستور تقرّ بأن الجميع متساو دون تمييز بسبب العرق أو الجنس أو المذهب أو الدين.. الخ. وبالمثل حظّرت المادة (42) بوضوح شديد التعليم بأية لغة غير اللغة التركية كلغة أم للمواطنين الأتراك في المؤسسات التعليمية. وهذا يتنافى مع المبادئ الأساسية لحقوق الطفل العالمية، التي تقرّ بحق الطفل التعلم بلغته الأم. إن أزمة الهوية هي التي تخيم هنا في الدستور التركي طوال أكثر من قرن من الزمان. وهي ما تعجز عن حلها أو التخلص منها الذهنية السياسية السائدة في تركيا، فهي غير قادرة على التغيير والانفتاح على الآخر عبر التحرر من ذهنية التفوق العنصري والإقصائي، وبالمقابل تفشل في التصالح مع التاريخ الثقافي والهوياتي الحقيقي لهذه الجغرافية.

مواقف الأحزاب القومية والمحافظة في تركيا من إدخال تغييرات دستورية لصالح الأكراد

في إطار حديثه لـ”الأيام نيوز”، أوضح پ. د. سربست نبي أن الأحزاب التركية تختلف جذرياً في مواقفها إزاء التعديلات الدستورية المتعلقة بالاعتراف بالهوية الكردية وحقوق الشعب الكردي:

فالحزب الحاكم العدالة والتنمية (AKP) يركز، بحسب نبي، على استثمار المسألة الكردية لتحقيق مكاسب سياسية وانتخابية، إذ يربطها بشعار “تركيا بلا إرهاب” كما يسمي عملياته، فيما يهدف من وراء أي تعديل دستوري بالدرجة الأولى إلى تعزيز صلاحيات رئيس الجمهورية وتمكين أردوغان من فرصة جديدة للترشح. وأضاف نبي أن الحزب لا يبدي استعداداً للاعتراف السياسي أو الثقافي الحقيقي بالحقوق الكردية.

أما حليف الحزب الحاكم، حزب الحركة القومية (MHP) اليميني، فيتمسك بمطلب نزع سلاح حزب العمال الكردستاني دون أي مقابل سياسي، ويرفض تماماً تقديم ما يسميه “تنازلات قومية”، بما في ذلك أي تعديل يمس هوية الدولة الأيديولوجية أو بنيتها الموحدة.

وفيما يخص حزب الشعب الجمهوري (CHP)، أشار نبي إلى أنه يُظهر مرونة ديمقراطية نسبية في التعامل مع الملف الكردي، لكنه في الوقت ذاته يعتمد سياسة مراوغة، إذ يسعى إلى إرضاء كلٍّ من القوميين الأتراك والعلمانيين الأكراد معاً. الحزب يعلن دعمه للمسار السلمي لكن بشرط أن يتم في إطار ديمقراطي دستوري علني، لا من خلال مفاوضات سرية، مع التأكيد على الحفاظ على المبادئ الكمالية للجمهورية.

أما حزب الشعوب الديمقراطي (DEM party)، الداعم الرئيس للقضية الكردية، فيطالب علناً بالاعتراف الدستوري بالهوية الكردية، وضمان حق التعليم باللغة الكردية، إلى جانب تعزيز الحكم المحلي في المناطق الكردية، كما يشدد على ضرورة إصلاحات ديمقراطية جوهرية تمس جوهر القضية.

 

پ. د. سربست نبي، أستاذ الفلسفة السياسية في جامعة كويا

وبالنسبة إلى حزب الجيد (İYİ Parti)، القومي المتشدد المنشق عن الحركة القومية، بيّن نبي أنه يرفض كلياً أي حوار حول القضية الكردية أو التعديلات الدستورية المرتبطة بها، ويرى في تأسيس اللجنة البرلمانية محاولة “لإضفاء شرعية سياسية على منظمة إرهابية”، ويعتبر الاعتراف بالقضية الكردية تهديداً مباشراً لوحدة البلاد وسيادة الدولة.

تصريحات المستشار أوغيوم: اعتراف بالحقوق أم إنكار للهوية الكردية؟

خلال تصريحه لـ”الأيام نيوز”، أوضح پ. د. سربست نبي أن مستشار الرئيس التركي محمد أوغيوم لم يقدم أي اعتراف فعلي بالحقوق أو الهوية الكردية، بل كرر أطروحات طورانية قديمة لا ترى سوى الأمة التركية. وأشار نبي إلى أن هذه الرؤية التي تصف الكرد بأنهم “أتراك الجبال” وتعتبر لغتهم مجرد لهجة منحرفة، لم تعد تنسجم مع الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي لتركيا، كما تتعارض مع المواثيق الدولية، الأمر الذي يجعل الحديث عن السلام مجرد شعارات خالية من المضمون.

حلّ حزب العمال الكردستاني: نهاية الصراع المسلح أم استمرار جذور الأزمة؟

وفي حديثه لـ”الأيام نيوز”، شدد نبي على أن عقود الكفاح المسلح التي خاضها الكرد أثبتت أن العمل العسكري غير كافٍ لمعالجة قضية بهذا العمق. واعتبر أن حل حزب العمال الكردستاني قد يكون خطوة إيجابية في إنهاء النزاع المسلح، لكنه يظل غير كافٍ ما لم يترافق مع إصلاحات سياسية ودستورية جوهرية تكفل الحقوق الثقافية والسياسية للشعب الكردي. وأضاف أن جذور الأزمة أعمق من الجانب العسكري، إذ تعود إلى طبيعة الدولة القومية الأحادية التي تأسست منذ 1923.

الجيش التركي والتحولات السياسية.. بين تراجع الهيمنة والتشبث بالعقيدة الكمالية

وفي تصريحات أخرى لـ”الأيام نيوز”، بيّن نبي أن الجيش التركي لم يعد يسيطر على الحياة السياسية كما كان في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، بعد أن حدّت الإصلاحات الأخيرة من نفوذه المباشر. لكنه ما زال يمثل لاعباً رئيسياً يدعم ما يسمى “الدولة العميقة” في مساعيها للحفاظ على وحدة البلاد ومنع أي مساس بالهوية الكمالية. وأوضح نبي أن تعاطي الجيش مع التحولات السياسية المتصلة بالحقوق الكردية سيكون حذراً، لكنه لن يتحول إلى عامل حاسم إلا إذا مسّت التعديلات المرتقبة جوهر العقيدة الأيديولوجية للدولة.

الضمانات التي يطالب بها حزب المساواة والديمقراطية لاستمرارية عملية السلام

في سياق حديثه لـ”الأيام نيوز”، قال نبي:

يطالب حزب المساواة والديمقراطية بوجود ضمانات قانونية ودستورية لحقوق الكرد وضمان مشاركة سياسية فعالة لهم. ويرى أن أي عملية سلام حقيقية يجب أن تؤدي إلى إلغاء القوانين التي تجرّم الهوية الكردية، وإلى الاعتراف الدستوري بالشعب الكردي، وفتح المجال أمام التعليم والإدارة الذاتية الثقافية. الحزب يشدد على أن أي تسوية لا تُكتب لها الاستمرارية إن لم تُحصّن بضمانات دستورية قوية تحول دون التراجع عنها بتغير الحكومات أو تبدّل موازين القوى.

هل تكفي الحقوق الثقافية واللغوية لتحقيق اندماج كامل، أم أن المطالب أوسع؟

في إطار حديثه لـ”الأيام نيوز”، قال نبي:

لكي نفهم هذا السؤال بدقة ونجيب عليه بموضوعية، سأنوّه، في هذا السياق، بحديث السفير التركي في الجزائر محمد مجاهد يلماز، الذي قال في تصريح سابق إن “المشكلة الكردية لا تحل بمنح بعض الحقوق الثقافية فقط، وإنما بالاعتراف بهوية كاملة ومساواة حقيقية”. هذا القول يعكس جوهر القضية. فالحقوق اللغوية والثقافية أساسية، لكنها لا تكفي ما لم تترافق مع مشاركة سياسية فعلية، وتمكين اقتصادي واجتماعي، وإزالة كل أشكال التمييز. الاندماج الحقيقي لا يعني ذوبان الكرد في الهوية التركية، بل الاعتراف بتعددية الهوية الوطنية التركية.

تأثير المسار الكردي على علاقات تركيا مع دول الجوار (العراق، سوريا، إيران)

أوضح پ. د. سربست نبي لـ”الأيام نيوز” أن التعقيدات الجيوسياسية للقضية الكردية، وما يرتبط بها من تقسيم جغرافي للكرد بين أربع دول، تجعل أي مسار للحل داخل تركيا ذا انعكاسات مباشرة على علاقاتها مع العراق وسوريا وإيران. وبيّن أن هذه الدول جميعها تتوجس من أي مكتسبات يحققها الكرد في تركيا، خشية أن تشكل دافعاً لأكرادها للمطالبة بحقوق مشابهة. وأضاف أن تجربة إقليم كردستان في العراق، والإدارة الذاتية في شمال شرقي سوريا، والاحتجاجات الكردية المتكررة في إيران، كلها شواهد على هذا الارتباط. ورأى نبي أن أي تسوية حقيقية في أنقرة قد تفتح الباب إما لتوترات إقليمية جديدة، أو على العكس لتعاون أوسع إذا ما بادرت الدول الأخرى إلى إصلاحات موازية.

هل يفتح حل حزب العمال الكردستاني أبواب الاتحاد الأوروبي أمام تركيا؟

وبحسب ما أكده نبي لـ”الأيام نيوز”، فإن ملفات حقوق الإنسان والديمقراطية تمثل العقبة الأكبر أمام قبول تركيا في الاتحاد الأوروبي، لا مجرد الصراع مع حزب العمال الكردستاني. وأوضح أن حل الحزب وحده لن يكون كافياً لتحسين صورة تركيا خارجياً، ما لم يترافق مع إصلاحات شاملة تطال القضاء والإعلام والحريات العامة. وأضاف أن الاتحاد الأوروبي يشترط تقدماً حقيقياً في ملف الأقليات، وفي مقدمتها القضية الكردية، ليعيد فتح أبواب الانضمام أمام أنقرة. ومن هنا، فإن أي تسوية جادة مع الكرد قد تمنح تركيا زخماً دولياً جديداً، لكنها ليست ضماناً نهائياً للعضوية الأوروبية.

===========

الأيام نيوز

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…