اكرم حسين
يُمثّل استفتاء إقليم كردستان العراق في الخامس والعشرين من أيلول 2017 حدثاً استثنائياً في التاريخ السياسي الكردي، إذ شكّل ذروة لمسارٍ طويلٍ من النضال القومي ، وتجسيداً عملياً لحق تقرير المصير الذي ظلّ شعاراً مركزياً في الخطاب الكردي عبر عقود ، وبعد مرور ثمانِ سنوات، ما زال هذا الاستفتاء مثار نقاشٍ وجدلٍ واسعٍ في الأوساط السياسية الكردية والاقليمية ، من زاوية نتائجه المباشرة، و بما يحمله من دلالاتٍ عميقةٍ تتعلق بمستقبل الشعب الكردي وعلاقته بالدولة العراقية والمنظومة الإقليمية والدولية.
لقد تميّز الاستفتاء بكونه لحظة التقاء بين الإرادة الشعبية والقرار السياسي، إذ خرج ملايين الكرد في مدن الإقليم والمهجر للتعبير عن رغبتهم في إقامة دولتهم المستقلة. فقد كانت الاحتفالات العفوية التي عمّت المدن الكردية تجسيداً لتراكمٍ تاريخيٍ لطموحاتٍ ظلّت مُؤجّلة بفعل تعقيدات الداخل العراقي وضغوط الإقليم والمجتمع الدولي ، وفي قلب هذه اللحظة، كان الدور القيادي للرئيس مسعود بارزاني حاسماً، إذ أبدى شجاعةّ ووضوح رؤية عندما أصر على المضي في إجراء الاستفتاء رغم التهديدات والاعتراضات، مؤمناً أن الشعوب لا تنتظرُ إذناً لتقرير مصيرها ، وبذلك عبّر هذا القرار عن إرادة جماعية للكرد ورفض أن تُختزل تطلعاتهم في تفاهماتٍ مؤقتةٍ أو مساوماتٍ آنيةٍ، ما يعكس رمزية قيادته في المرحلة التاريخية.
لكن ما إن انتهى الاستفتاء حتى ظهرت التناقضات الداخلية على السطح. فقد تعاملت بعض القوى السياسية الكردية مع الحدث باعتباره أداةً للاستثمار في الصراع الحزبي، فدعمت الخطوة في البداية ، وأعلنت وقوفها إلى جانب البارزاني ، لكنها سرعان ما انقلبت على مواقفها بعد تصاعد الضغوط الدولية، وخصوصاً عقب استعادة بغداد السيطرة على العديد من المناطق . هذا التحوّل أظهر أن الانقسام الداخلي يظلّ أحد أكبر التحديات أمام مشروع قومي جامع، وأن غياب توافق داخلي واضح يمكن أن يقلّل من أثر الإنجازات التاريخية ، ويجعلها عرضة لإعادة التوظيف في الصراعات السياسية.
وعلى الصعيد الإقليمي، واجه الاستفتاء رفضاً واسعاً من بعض دول الجوار التي رأت فيه تهديداً لمصالحها الاستراتيجية. كتركيا وإيران اللتان وقفتا بوضوح ضد الخطوة، خشية أن يمتد تأثيرها إلى أوضاعهما الداخلية حيث يعيش ملايين الكرد. أما بغداد، فقد استثمرت الموقف الدولي الرافض لفرض وقائع جديدة على الأرض، مستعيدة السيطرة على المناطق المتنازع عليها. هذا التداخل بين العوامل المحلية والإقليمية والدولية يوضّح أنّ القضية الكردية ليست شأناً داخلياً فحسب، بل هي قضية إقليمية ودولية، ما يزيد من تعقيداتها ويجعل أي خطوة نحو الاستقلال مرهونة بتوازن القوى الإقليمي والدولي.
مع ذلك، يظل الاستفتاء حدثاً ذا أثر تاريخي لا يمكن تجاوزه أو إلغاؤه، لأنه رسّخ في الوعي الجمعي الكردي أن الحق في الدولة ليس مجرد شعار نظري فقط ، بل إرادة يتم التعبير عنها عبر صناديق الاقتراع. هذه الحقيقة جعلت من الصعب على أي طرف، داخلياً أو خارجياً، التعامل مع القضية الكردية كمسألة حقوق ثقافية أو إدارية محدودة ، بل إنها قضية شعب يسعى إلى أن يكون سيد قراره على أرضه.
لكن ، لم تتحول هذه الرؤية إلى مشروع سياسي مؤسساتي بسبب غياب العقد الاجتماعي الذي يضمن توافقاً شاملاً بين القوى الكردية. فالتجربة التاريخية للكرد تُظهر أنهم لم يتمكّنوا عبر قرون من بناء دولة مركزية قوية، مما جعلهم عرضة للتدخلات الخارجية والانقسامات الداخلية ، وبعد الاستفتاء، تجلى هذا الإرث التاريخي في شكل صراعات حزبية وفئوية عطّلت إمكانية البناء على الزخم الشعبي، فبدلاً من أن يتحول الاستفتاء إلى منطلق لتوحيد الصفوف وإعادة هيكلة مؤسسات الحكم، أصبح مادة للتجاذب السياسي.
هنا ظهر الدور القيادي للرئيس مسعود بارزاني، إذ أبدى قدرة على تحمل المسؤولية التاريخية عندما اختار الانسحاب من المشهد التنفيذي بعد الأحداث التي أعقبت الاستفتاء، في خطوة عكست فهماً عميقاً لمعنى القيادة باعتبارها تكليفاً لا امتيازاً. فقد أراد أن يرسل رسالة مفادها أن القضية الكردية أكبر من الأشخاص والأحزاب، وأنها قضية أمة ينبغي أن تتجاوز حسابات الربح والخسارة الفئوية، مما عزز مكانته رمزاً قومياً وزعيماً تاريخياً يرتبط بالتحولات الكبرى، لا بالسلطة المباشرة.
الدروس المستفادة من هذه التجربة متعددة: أولها أن الإرادة الشعبية وحدها لا تكفي إذا لم تترافق مع مؤسسات قوية قادرة على حماية القرار السياسي وتحويله إلى سياسات عملية. ثانيها أن غياب التوافق الداخلي يجعل أي إنجاز عرضة للانقسام والتبديد. ثالثها أن الموقع الجغرافي والسياسي لكردستان يجعل أي خطوة مصيرية مرهونة بتوازنات إقليمية ودولية معقدة. رابعها أن القيادة الحقيقية تظل عاملاً حاسماً في تحويل اللحظة التاريخية إلى مسار سياسي مستدام، وهو ما تجلى في دور الرئيس مسعود بارزاني أثناء الاستفتاء وما تلاه.
اذاً، لم يكن الاستفتاء مجرد حدث سياسي عابر، بل محطة فارقة أعادت صياغة الوعي القومي الكردي ، ورسّخت فكرة الدولة في المخيال الجمعي ، ورغم التحديات والانكسارات التي أعقبته، فقد فتح أفقاً جديداً للنقاش حول مستقبل الكرد في العراق والمنطقة ، والتحدي الذي يواجه الكرد اليوم ، يكمن في تحويل هذا الإرث الرمزي إلى مشروع مؤسساتي راسخ يقوم على عقد اجتماعي متين، وحكم رشيد، وموقف قومي موحد يتجاوز الانقسامات الداخلية ، ومن دون ذلك، سيبقى حلم الدولة عرضة للتأجيل والتراجع أمام مصالح القوى الإقليمية والدولية. إلا أن الثابت أن إرادة الشعب الكردي، التي عبّر عنها في استفتاء 2017 ، ستظل معياراً رئيسياً لأي تسوية مستقبلية تخص موقع الكرد وحقوقهم في العراق والمنطقة.