لا عدالة انتقالية إلا بتنفيذ القرار 2254

بدران مستو

ترك النظام السوري البائد إرثاً ثقيلاً من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، طالت جميع مكونات الشعب السوري دون استثناء، وقد صنفتها العديد من المنظمات الدولية والحقوقية على أنها جرائم إبادة جماعية، وجرائم ضد الإنسانية، وجرائم حرب موثقة، بدأت هذه الجرائم بمشاريع عنصرية ممنهجة ضد الشعب الكردي، أبرزها مشروع “الحزام العربي” الاستيطاني، و”الإحصاء الاستثنائي”، وتواصلت الانتهاكات عبر مجازر حماة المروعة، ومجزرة سجن تدمر، وصولاً إلى قتل العشرات من شباب الكرد خلال انتفاضة قامشلو، وأثناء تأدية خدمتهم الإلزامية في الجيش، فضلاً عن اغتيال الدكتور الشيخ محمد معشوق الخزنوي، وخلال سنوات الثورة، شهدت البلاد تصاعداً في ارتكاب الجرائم والمجازر الجماعية باستخدام الأسلحة الكيميائية والبراميل المتفجرة، واعتقال مئات الآلاف من المواطنين لقي معظمهم حتفهم تحت التعذيب الوحشي، وكذلك أسفرت هذه الأحداث الدموية عن مئات الآلاف من المفقودين والمصابين بتشوهات جسدية دائمة.

كما خلف النظام المنهار دماراً واسعاً في البنية التحتية، وجغرافية مفككة، وفوضى أمنية واقتصادية، وانتشاراً للسلاح والمخدرات، مع تقديرات أممية تشير إلى أن تكلفة إعادة الإعمار قد تصل إلى 500 مليار دولار. كما ترك قضايا تاريخية معلقة، وسيادة غائبة، ومجتمعاً مثقلاً بالجراح والانقسامات.

بعد مرور تسعة أشهر على سيطرة هيئة تحرير الشام وحلفائها من الفصائل المسلحة المتطرفة، لم تنجح سلطتها المؤقتة في توفير بيئة سياسية مناسبة لمعالجة إرث الانتهاكات، بل على العكس، ساهمت في تعميق الأزمة، حين تجاهلت الحوار والمفاوضات، ولجأت إلى تعبئة أنصارها عبر منابر المساجد والنداءات العشائرية، والزحف بها مع قدرات جيشها في السيطرة على الساحل السوري، ومن ثم محاولة السيطرة على محافظة السويداء، مما أدى إلى ارتكاب الجرائم والمجازر الدموية بحق المدنيين في تلك المناطق، علاوةً إلى تفشي حالة الفوضى والفلتان الأمني في الشارع السوري، التي تؤدي إلى عمليات قتل يومية بحق المدنيين على أساس الهوية، مع استمرار الفصائل المسلحة الموالية لتركيا في ارتكاب الانتهاكات في مناطق عفرين وسري كانييه وكري سبي، ولجوئها المتكرر إلى خرق اتفاقية وقف إطلاق النار، مما يهدد الاستقرار الهش في المنطقة.

وعلى وقع هذه الوقائع المأساوية، وانعدام استقلالية القضاء، يصدر رئيس المرحلة المؤقتة السوري المرسوم رقم 149 لعام 2025، القاضي بتشكيل “الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية”، متجاوزاً هذه الحقائق والمعطيات، بهدف معالجة الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبت خلال فترة حكم آل الأسد حتى تاريخ إسقاطه، دون أن يشمل الانتهاكات والجرائم في المرحلة الانتقالية. ونسجل هنا بعض الملاحظات حول تشكيل هذه الهيئة:

  • غياب التوافق الوطني: تشكيل الهيئة لم يأتِ نتيجة حوار وطني شامل، بل صدر بقرار فردي من السلطة المؤقتة.
  • الإقصاء الجغرافي: تمثيل المحافظات في الهيئة بدا غير متوازن، حيث غابت محافظات مثل الحسكة، الرقة، السويداء، درعا، القنيطرة، وطرطوس عن عضوية اللجنة، رغم أنها شهدت انتهاكات جسيمة.
  • الاستقلالية السياسية: ستة من أعضاء الهيئة ينتمون إلى خلفيات سياسية وعسكرية، ما يضعف مبدأ الحياد المطلوب، ومن بينهم رئيس الهيئة عبد الباسط عبد اللطيف، الذي شغل مناصب سياسية وعسكرية بارزة، منها الأمين العام للائتلاف الوطني السوري، ورئيس المكتب السياسي لجيش أسود الشرقية.

في ظل الواقع المعقد الذي تعيشه البلاد، لا يمكن لأي هيئة، مهما كانت نواياها، أن تنجح في أداء مهامها بشكل شامل وعادل دون تهيئة الظروف المناسبة وضمان حيادية البيئة السياسية. فتركيبة السلطة المؤقتة، ذات الخلفية الجهادية السلفية، تفرض تحديات حقيقية أمام مسار العدالة الانتقالية، ما لم تمنح ضمانات واضحة بعدم مساءلة بعض رموزها، كخطوة ضرورية لتجنب استمرار الفوضى والعنف، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا بعد التنفيذ الكامل لمضمون قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، باعتباره السبيل الوحيد لإرساء بيئة آمنة ومحايدة، تُمكن من معالجة الأزمة السورية، وتضمن تحقيق العدالة، وتُرسي قواعد الاستقرار.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…