ماهين شيخاني
منذ إحدى وأربعين سنة، كنت في التاسعة عشرة، حين دسّ صديق في جيبي نشرة حزبية صغيرة. لم تكن أوراقاً عابرة، بل كانت شرارة غيّرت مسار حياتي. دخلت عالماً من الغرف المظلمة، والهمسات الخافتة، والأبواب التي لا تُفتح إلا على الخوف.
مذ ذاك، ذقت أشكال القسوة كلّها: تحقيقات لا تنتهي، زنازين رطبة، هراوات تتكلم بلغة أوضح من كل الشعارات، طرد من الوظائف، وتهديد بالموت كان يسير بجانبي أينما ذهبت. ومع ذلك لم أتراجع، لم أفكر بذاتي ولا بمصير أسرتي، حتى صار الجوع رفيقاً، والفاقة معطفاً دائماً.
واليوم، حين أجلس لأحسب حصيلة العمر، أضحك بمرارة:
اشتراكاتي وحدها كانت تكفي لبناء بيتٍ يسكنه أحفادي.
الولائم والواجبات الرفاقية كانت كفيلة بأفخم سيارة.
أما الانشقاقات، فهي أكثر من مواسم المطر: 1981، 1988، 1998، 2015، 2018… وما زال الحبل طويلاً .
بين كل انقسام وانكسار، تفككت أسرتي، انحنى ظهري، وابتعد عني الذين رفعتُ من شأنهم، فإذا بهم يسخرون، كأن النسيان جزء من شريعتنا. لم يكن غريباً؛ فالكائن يتبدل، والأفعى تغيّر جلدها، ومجتمعنا يوزع الأقنعة بوفرة.
وفي النهاية، لم يهبني النضال سوى جسد عليل، جيوب فارغة، وذاكرة مزدحمة بالخيبات.
حتى جاء “كورونا”، ليوحّد الجميع بقناعٍ واحد. ضحكتُ في سري: أربعون عاماً وأنا أعيش بين وجوهٍ بلا أقنعة، والآن جاء الوباء ليكشف الحقيقة… كنا جميعاً نرتدي الأقنعة منذ البداية.