حين ينهش القناع مَن يلبسه

بوتان زيباري

 

في عمق هذا العالم، الذي يبدو كأنه مشهد مسرحي بلا نهاية، لا يمكن للمرء أن يميّز بسهولة بين ذئبٍ يبتسم وإنسانٍ ينهش. لقد غدت الأقنعة أكثر من مجرد تمثيل أو تصنّع؛ صارت بنيةً من بنى الحياة ذاتها، حيث تتلبّس الذئاب ثياب البشر، لا لتخدع الآخرين فحسب، بل لتقنع نفسها أن ما تفعله ليس افتراساً بل «ضرورة». أيّ مأساة هذه التي تجعل من الرحمة شعاراً للضباع، ومن العدل نشيداً للثعالب؟! إننا لا نعيش في غابة الأشجار، بل في غابة الوجوه، الوجوه التي كلما اقتربتَ منها، أدركتَ أن الأقنعةَ أصدق من ملامحها.

لم يعد الزئير يعلو ولا العواء يُخيف، فقد صار الكذب أكثر تهذيباً، والمخالب أكثر أناقة. تُصاغ الخيانات في قوالب وعود، وتُلبس الخيبات أردية الحكمة. أترى منتهى الذكاء في أن يكون افتراسك مشفوعاً بكلماتٍ منمّقة؟ أم أن هذه هي قمة السقوط الأخلاقي حين تتخفّى الوحشية خلف مرآة العقل والضمير؟ في هذه الغابة، تتنقّل الكلمات كالفخاخ، لا تبني جسوراً بل تنصب الكمائن، بينما تتهادى الذئاب على خشبة السلطة بأقنعة من ضوء، تخدع العيون وتخدر القلوب.

كأنما هذه الأرض لم تُخلق لتُزرع، بل لتُفترَس. لا قانون يعلو فيها إلا من سَلّ سيفَه أو زيّن لسانَه. تُنشد المبادئ، وتُعلَّق الشعارات، لكن تحتها تُذبح الأرواح باسم النظام، وتُسرق العدالة باسم القانون. أصبح الخير واجب اللباس، لا واجب الفعل؛ وتحوّل الإنسان إلى «كائن محتمل»، يتأرجح بين هيئة ملاك ونزعة وحش، بلا يقين في أيٍّ منهما.

وفي ظل هذه الانقسامات المريعة، لم نعد نعرف: من هو الإنسان؟ أهو من يتألم؟ أم من يتصنّع الألم ليرتكب الجريمة باسم العاطفة؟ من هو الوحش؟ أهو مَن ينهش لحماً؟ أم مَن ينهش وعداً، وينقض عهداً، ويغدر بأقرب الناس إليه وهو يبتسم؟ إن اختلاط المظهر بالجوهر لم يعد مجرد لبسٍ في الرؤية، بل صار لبساً في الهوية. لم تعد الأنياب تُعرَض، بل تُخفى في قُطن الكلام، حتى لا نفيق إلا ونحن نصافح القاتل، ونبكي على أعتابه، كما لو كان هو الضحية.

يا لها من مفارقة: أن يُصبح الجمال ستاراً للقبح، والصدق عباءةً للكذب، والرحمة واجهةً لقسوةٍ لا حدود لها. كم من قناعٍ مضيءٍ يخفي خلفه ظلاماً دامساً! وكم من يدٍ امتدت للمصافحة، وهي تحمل خنجراً في كُمّها! لقد غابت البراءة لا لأن الذئب افترسها، بل لأن الضحية استمرأت البقاء في قفصها.

وفي النهاية، لا يُطلب من الإنسان أن يكون ذئباً لئلا يُفترَس، ولا أن يكون حملًا يُقدَّم على المذبح باسم النقاء. بل المطلوب أن يستيقظ من سباته الأخلاقي، أن يخلع ثياب الزيف، ويعيد تعريف الإنسانية. فليس كل مَن تكلّم بالحكمة حكيمًا، وليس كل مَن ابتسم صديقًا، وليس كل مَن لامس قلبَك جديرًا بالبقاء فيه. فلا تغترّ بمَن يهمس لك بالحب، فقد يكون ذلك الهمس آخر صوتٍ تسمعه قبل أن تنهشك الحقيقة.

استعادة الإنسان من غابته لا تكون بالشعارات، بل بالمواجهة الصادقة مع الذات. حين لا نعود نخشى الحقيقة، سنعرف كم خُدعنا، وكم خدعنا أنفسنا. فافتح عين قلبك قبل عينك، وانظر حولك لا بعين المظاهر، بل بعين الوعي: هل من حولك بشرٌ حقاً، أم أن الذئاب قد أتقنت التمثيل؟

السويد

07.06.2025

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…