في سوريا، لا يُطرح سؤال الدستور بوصفه نقاشاً قانونياً مجرداً، بل باعتباره معركة على هوية الوطن. ومنذ اللحظة الأولى لانفجار الثورة السورية عام 2011، كان واضحاً أن المشكلة السورية لم تكن فقط في شكل الحكم، بل في بنيته ومضمونه وموقع “الآخر المختلف” داخله: الكردي، الدرزي، المسيحي، العلوي، الأشوري، الإيزيدي، الشركسي، الكلداني، وحتى العربي نفسه حين يكون خارج النسخة الرسمية من “العروبة” التي صيغت في دهاليز البعث.
في الحالة السورية، كما في العراق، الدستور ليس فقط وثيقة، بل عقد اجتماعي ناظم بين شعوب متعددة تشترك في الجغرافيا وتختلف في السرديات. والمشكلة أن الدولة السورية، منذ نشأتها، كانت دولة قومية مركزية اختزلت التنوع بالسلطة، واختزلت السلطة بالحزب، واختزلت الحزب بالقائد.
لكن بعد أكثر من عقد من النزيف السوري، وبعد انهيار منظومة الأسد القديمة وصعود سلطات أمر واقع متعددة، بات واضحاً أن الحل لن يكون في العودة إلى الوراء، بل في إنتاج دستور جديد، يعكس التعدد ويضمن الحقوق ولا يعيد إنتاج الاستبداد، لا باسم الوحدة ولا باسم الأغلبية.
الدولة المركبة: ضرورة لا خيار
في سوريا اليوم، لا يمكن الحديث عن “شعب واحد” بالمعنى البعثي العابر للواقع، بل عن شعوب متعددة تتشارك الذاكرة والدم والجغرافيا. الكرد في الشمال الشرقي، الدروز في الجنوب، المسيحيون في الأطراف، العلويون في الساحل، والعرب السنة بين المدن الكبرى والأرياف. هذا التعدد لا يعني تقسيم الوطن، بل الاعتراف به كما هو، لا كما يراد له أن يكون. الاعتراف لا يعني التشظي، بل هو أول الطريق نحو بناء دولة جامعة بحق.
إن أي دستور لا يُقرّ بالتعدد القومي والديني والمذهبي كجزء مؤسس للهوية السورية، هو دستور يهيئ لجولات جديدة من الصراع. والدولة الديمقراطية ليست دولة متجانسة، بل دولة تعايش وتوازن وتوافقات.
في هذا السياق، تبدو التجربة العراقية نموذجاً مهماً للتأمل، لا للاستنساخ. فدستور 2005 العراقي، رغم عثراته، اعترف بكردستان ككيان اتحادي، وباللغة الكردية كلغة رسمية، وضمن للكرد حصة دستورية واضحة، وهو ما جنّب العراق – نسبياً – حرباً مفتوحة بين المركز والإقليم، رغم التوترات المتقطعة.
لكن الحالة السورية أكثر تعقيداً من العراقية، لأن سوريا لا تحتوي فقط على قوميتين كبيرتين (العرب والكرد)، بل على فسيفساء طائفية ومجتمعية نادرة: من الإسماعيليين إلى العلويين، من الآشوريين إلى الأرمن، من السريان إلى الإيزيديين. كل هؤلاء بحاجة إلى ضمانات دستورية لا تؤسس فقط لمواطنة شكلية، بل لمواطنة فعلية، تجعل من الانتماء القومي والديني ثروة لا لعنة.
نحو عقد اجتماعي جديد: كيف نكتب دستور سوريا؟
الدستور القادم لسوريا ينبغي أن يخرج من منطق “الغلبة” إلى منطق “الشراكة”. لا ينبغي أن يُكتب في مكاتب دمشق وحدها، ولا أن يُفرض من عواصم القرار الدولي، بل أن يكون ثمرة حوار سوري–سوري حقيقي، بين العرب والكرد، بين المسلمين والمسيحيين، بين السلطة والمعارضة، بين الداخل والخارج.
ولكي يكون هذا الدستور عادلاً وجامعاً، لا بد أن يتضمن المبادئ التالية:
1. الاعتراف الدستوري بالقومية الكردية وبقية المكونات
ينبغي أن يعترف الدستور بشكل واضح بالشعب الكردي كمكون أصيل ومتجذر في سوريا، يملك الحق في لغته، ثقافته، وإدارته الذاتية ضمن إطار الدولة السورية. هذا لا يعني الانفصال، بل الشراكة العادلة. كما يجب أن ينعكس هذا الاعتراف على تسمية الدولة، بحيث لا تكون “الجمهورية العربية السورية”، بل ببساطة: “الجمهورية السورية”، دولة لكل مكوناتها دون استثناء.
2. اللامركزية السياسية والإدارية
كما في النموذج الألماني أو السويسري، ينبغي أن تتبنى سوريا نموذجاً لامركزياً حقيقياً، يعطي المناطق حق إدارة شؤونها، من التعليم إلى الأمن، ضمن إطار السيادة العامة للدولة. وهذا يشمل حق المناطق الكردية في إدارة نفسها، بما يضمن خصوصيتها القومية دون المساس بوحدة الأرض السورية.
3. دولة مدنية علمانية
لا بد من فصل الدين عن الدولة، لا بمعنى معاداة الدين، بل تحييد الدولة عن الانحياز الديني والطائفي. هذا وحده يضمن العدالة بين المسلمين والمسيحيين، بين السنة والعلويين، ويحول دون تكرار تجربة التمييز أو الاستغلال السياسي للدين.
4. تعدد اللغات والثقافات
ينبغي الاعتراف باللغة الكردية كلغة رسمية ثانية إلى جانب العربية في المناطق ذات الأغلبية الكردية، كما يجب تمكين الثقافات السريانية، الآشورية، الأرمنية، والتركمانية من التعبير عن نفسها بحرية في التعليم والإعلام والحياة العامة.
5. جيش وطني بعقيدة جديدة
لا يمكن أن تستقيم دولة حديثة وجيشها مبني على الولاء السياسي أو الطائفي. لا بد من بناء جيش وطني جديد، تمثل فيه كل المكونات السورية، بما في ذلك قوات سوريا الديمقراطية التي أثبتت فعاليتها في محاربة الإرهاب، ضمن رؤية دفاعية لا هجومية.
الكرد والدستور: بين الحق والواقعية
إن المطلب الكردي في سوريا ليس انفصالياً، كما تروج بعض الجهات، بل هو مطلب حقوقي وإنساني وسياسي مشروع، يقوم على مبدأ الشراكة لا الهيمنة. والحق أن المشروع الدستوري لأي سوريا قادمة لا يمكن أن يُكتب بدون حضور كردي فعلي، ليس فقط كشريك في الصياغة، بل كمؤسس للفكرة الوطنية الجديدة.
لقد أثبت الكرد، في تجارب الإدارة الذاتية، أنهم قادرون على بناء نموذج حكم يضمن الأمن والتعليم والمساواة، رغم الحرب والحصار. كما أثبتوا في قتالهم ضد “داعش” أنهم في طليعة من حمى سوريا من السقوط في هاوية الدولة الدينية. فمن غير المعقول بعد كل هذا أن يُعاد الكرد إلى هامش الدستور الجديد.
هل يكون الحل في “الدولة الاتحادية”؟
ثمة من يطرح فكرة الفيدرالية أو الدولة الاتحادية كحل ممكن. والحقيقة أن الفيدرالية ليست بالضرورة انفصالاً، بل قد تكون صيغة وحدوية أقوى من المركزية، لأنها تبني على الثقة لا على القسر. التجربة الكردستانية في العراق مثال، ورغم مشاكلها، إلا أنها وفرت للأكراد حداً أدنى من الحقوق السياسية والثقافية.
لكن ينبغي أن تُصاغ الفيدرالية السورية بطريقة سورية خالصة، لا مستنسخة من النموذج العراقي أو الأمريكي. في الحالة السورية، قد تكون “اللامركزية الموسعة” أو “الاتحاد اللامركزي” صيغة وسطية تضمن الشراكة دون تهديد السيادة.
نريد دستوراً لا ينفجر
في النهاية، لا نحتاج إلى دستور شكلي جديد يُضاف إلى رفوف المحاكم، بل إلى عقد اجتماعي جديد، يؤسس لدولة سورية جامعة، قائمة على الشراكة لا الهيمنة، وعلى الاعتراف لا الإقصاء.
سوريا الجديدة لن تُبنى بالتغاضي عن المكونات، بل بالاعتراف بها. لن تُبنى بالعودة إلى شعارات الوحدة الزائفة، بل بتأسيس وحدة حقيقية، قائمة على العدالة والمساواة.
ربما تكون الكتابة الجديدة للدستور هي أصعب ما يمكن، لأنها تتطلب شجاعة الاعتراف لا شهوة الهيمنة. لكنها في الوقت ذاته، الفرصة الأخيرة لإنقاذ سوريا من لعنة التكرار