حين يُحاكم الأمس بعين اليوم

فواز عبدي

 

لا يزال الشعب الكردي يرزح تحت محاولات دؤوبة لتشويه تاريخه وطمس معالم هويته القومية والثقافية، سواء من قبل الأنظمة التي توارثت قمعه، أو من قبل جهات خارجية تسعى إلى إعادة رسم سردية المنطقة بما يخدم مصالحها. لكن أشدّ أشكال هذا التشويه وأكثرها إيلاماً، هو ما يصدر من بعض أبناء الشعب الكردي أنفسهم، تحت شعارات ظاهرها الحياد والموضوعية، وباطنها الخضوع والخوف والمسايرة.

أحد أبرز تجليات هذا التزييف هو النظر إلى الماضي بعين الحاضر. أي إسقاط مفاهيم الدولة الحديثة، والحدود السياسية، والهوية القومية المُصطنعة، على سياقات تاريخية لم تكن تعرف هذه التصنيفات أصلاً.
فمن المؤسف أن نسمع من بعض المثقفين الكرد – عن وعي أو غير وعي – توصيف الكرد الذين سكنوا منطقة الجزيرة السورية (مثل قامشلو، عامودا، وسري كانيه) على أنهم “مهاجرون من تركيا” في بدايات القرن العشرين، متناسين أن ما يُعرف اليوم بتركيا وسوريا لم يكن موجوداً آنذاك، بل كانت جميع تلك المناطق تقع ضمن حدود الدولة العثمانية.

لقد كان انتقال الكردي من ماردين أو وان أو آمد إلى عامودا أو قامشلو بمثابة انتقال داخلي ضمن وطنه الطبيعي، تماماً كما ينتقل اليوم من كوباني إلى عفرين أو قامشلو، وبالعكس. لم تكن هناك هجرة، ولا لجوء، ولا عبور حدود دولية.

في هذا السياق، يُثير الاستغراب أن يقع مثقف بحجم الكاتب الكردي جان دوست في هذا الفخ الخطابي، حين تحدث في إحدى القنوات العربية عن الشاعر الكردي الكبير جكرخوين، قائلاً إنه “هاجر من تركيا إلى سوريا” ثم “حصل على الجنسية السورية”، وكأنه يتحدث عن لاجئ معاصر عبر الحدود بجواز سفر.
والحقيقة، التي يعرفها معظم أبناء المنطقة، أن جكرخوين لم “يهاجر”، بل انتقل طفلاً من قريته هسارى إلى عامودا بعد وفاة والديه، حيث احتضنته أخته، وربّته ووفّرت له فرصة التعلم.

إن تصوير جكرخوين كمهاجر من “تركيا” إلى “سوريا” لا يعكس الواقع التاريخي، بل يعكس خضوعاً للرؤية القومية المركزية التي تسعى لتصوير الكرد كدخلاء على الجغرافيا السورية، وتُطمس بذلك الحقيقة الأهم: أن الكرد في الجزيرة هم أبناء الأرض، لا ضيوفاً عليها.

ما يُقلق في هذا الخطاب ليس مجرد خطأ معرفي، بل نزعة متزايدة للاختباء خلف مصطلحات “الاعتدال” و”الموضوعية” لتبرير التخلي التدريجي عن السردية الكردية الأصيلة، واستبدالها بسردية هجينة ترضي الجمهور العربي أو النخب السلطوية أو حتى المنصات الإعلامية العابرة.

الصدق مع التاريخ لا يعني التجميل، لكنه لا يعني أيضاً التنازل. وهو لا يتطلّب الحياد الزائف، بل الشجاعة. لأن الكردي الذي لا يقول الحقيقة عن نفسه وتاريخه، عليه ألاّ يتوقع من الآخر أن ينصفه.

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…