عن المواطنة المتساوية في سوريا…؟

اكرم حسين 
 لم تكن المواطنة ، في سوريا ، يوماً معطىً مكفولاً ، بقدر ما كانت امتيازاً ممنوحاً وفق معايير الولاء لا الاستحقاق. طوال نصف قرن من حكم الأسدين، جرى تقويض فكرة المواطنة المتساوية لصالح نظام يقوم على التمييز السياسي والطائفي والمناطقي، حيث تحوّلت الدولة إلى أداة لضبط المجتمع لا خدمته، وتماهت السلطة مع الوطن حتى صار الاعتراض خيانة، والانتماء المختلف شبهة ، ومع انهيار المعادلة السلطوية التي استندت طويلاً إلى الخوف والعنف، بات من الضروري مساءلة المفهوم المهمل: هل يمكن أن تكون المواطنة المتساوية اليوم مدخلاً حقيقياً للمصالحة والتوافق، لا مجرد شعار يُستهلك في النصوص الدستورية؟
واقع المواطنة في سوريا لا يحتاج إلى كثير من التحليل لإثبات هشاشته. فمنذ انقلاب 1970، أُعيد تشكيل الدولة لتخدم أمن النظام لا أمن المجتمع، وتم تكريس التراتبية بين المواطنين، عبر التفضيل الوظيفي والأمني لأبناء الطائفة أو الجهة أو الحزب، وتهميش القوميات غير العربية، وفي مقدمتها الكرد، الذين حرموا حتى من حق الاعتراف بهويتهم. أما في عهد بشار الأسد، فقد تضاعفت مظاهر التمييز، وارتبطت الحقوق بالخوف أو بالواسطة، في وقت تفاقم فيه الفساد، وانعدمت العدالة، وتفكّك الشعور الوطني أمام تَرسّخ الهويات الفرعية كملاذ أو رد فعل على تهميش مُمَنهج.
اليوم، وبعد أكثر من عقد على الانفجار السوري الكبير، تبدو الحاجة إلى إعادة بناء العقد الاجتماعي على أسس جديدة أكثر من ملحّة. فالمجتمع السوري يعيش تفككاً غير مسبوق، وسلطات الأمر الواقع تقاسمت الجغرافيا، والخطاب الطائفي ترسّخ في اللاوعي الجمعي، والدولة، حتى بحدّها الأدنى، لم تعد موجودة في معظم المناطق. وفي ظل اقتصاد منهار، وبنية تحتية مدمرة، وطبقة حاكمة مترهّلة، يصبح سؤال المواطنة المتساوية جوهرياً لا تجميلياً: هل يستطيع النظام، أو أي سلطة مستقبلية، تبني هذا المبدأ كخيار إنقاذي حقيقي؟
الجواب ليس في النصوص. فتضمين المواطنة في أي إعلان دستوري أو دستور دائم، من دون إرادة سياسية فعلية، لن يبدّل من الواقع شيئاً. بل الأسوأ أن تُستخدم المصطلحات الكبرى لتغطية استمرار البنية نفسها التي صنعت المأساة. فالمواطنة لا تُعلن، بل تُمارَس؛ ولا تُنتزع من الكتب، بل تُؤسس في سلوك الدولة ومؤسساتها وإدارتها وعدالتها، وفي قدرتها على التعامل مع مواطنيها بوصفهم متساوين في الكرامة والحماية والفرص، لا رعايا تُقاس حقوقهم بمدى ولائهم.
لكن المواطنة لا تُبنى على ركام الصراع من دون عدالة انتقالية ومصالحة وطنية. ولا معنى للحديث عن مساواة بين الضحية والجلاد، ما لم تُعالج الجرائم الكبرى بكشف الحقيقة، وضمان المحاسبة، وتعويض المتضررين، وتفكيك أدوات القمع، وتحرير القضاء، وبناء جهاز أمني يعمل لحماية المواطن لا مراقبته. العدالة الانتقالية هنا ليست ترفاً قانونياً بل شرطاً نفسياً وسياسياً لبناء الثقة، وهي الثقة نفسها التي لا يمكن ترميمها بمراسيم عفو أو لجان مصالحات، بل بإجراءات واضحة تعيد تعريف الدولة كضامن للحق العام، لا كمحتكر له.
على أي حكومة أو سلطة تسعى حقاً لإرساء المواطنة المتساوية، أن تبدأ بإصلاح الأجهزة الأمنية والقضائية، وتحرير الإدارة من الولاءات الضيقة، ووضع قوانين انتخابية تمثيلية، وسن تشريعات تجرّم التمييز بكافة أشكاله. كما أن إعادة النظر في المناهج التربوية والخطاب الإعلامي، بما يعزز قيم التنوع والانتماء الوطني الجامع، ضرورة لا تقل أهمية. فالمواطنة تبدأ من المدرسة ومن شاشة التلفاز، حين يُفهم الطفل السوري أن له الحق في لغته ودينه وثقافته، وأنه لا يُقيَّم بهويته، بل بمساهمته في الصالح العام.
هل تكفي هذه الخطوات لتكون المواطنة المتساوية واقعاً عنيداً لا مجرد وعود؟ ربما لا، ما لم تُرافقها بيئة سياسية جديدة تنهي عقلية الاستئثار، وتفسح المجال أمام مشاركة حقيقية لكافة المكونات، من دون إقصاء أو احتواء. دولة المواطنة لا يمكن أن تُبنى على ذات الأدوات القديمة، ولا بعقلية المنتصر والمهزوم، بل برؤية وطنية شجاعة تتعامل مع التنوع كرافعة قوة، لا كعبء يجب تطويعه.
المواطنة المتساوية ليست مفهوماً قانونياً فحسب، بل هي قاعدة تأسيسية لأي مشروع وطني سوري جديد. ومن دونها، ستبقى سوريا مقسمة اجتماعياً وإن استعادت وحدتها الجغرافية. إنها الجسر الوحيد الممكن لعبور الماضي نحو مستقبل يستحقه السوريون، مستقبل يتساوون فيه أمام القانون، ويختلفون في السياسة، ويتفقون على الوطن.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…

شادي حاجي في عالم يتزايد فيه الاضطراب، وتتصاعد فيه موجات النزوح القسري نتيجة الحروب والاضطهاد، تظلّ المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) طوق النجاة الأخير لملايين البشر الباحثين عن الأمان. فمنظمة نشأت بعد الحرب العالمية الثانية أصبحت اليوم إحدى أهم المؤسسات الإنسانية المعنية بحماية المهدَّدين في حياتهم وحقوقهم. كيف تعالج المفوضية طلبات اللجوء؟ ورغم أن الدول هي التي تمنح…