سليمان علي
زلزال سياسي يهز المشهد في كوردستان والمنطقة.
لم يكن PKK مجرد حزب مسلح، بل شبكة أيديولوجية وتنظيمية ممتدة عبر الأجزاء الأربعة من كوردستان: PKK في كوردستان تركيا، PJAK في كوردستان ايران، T. Azadi في كوردستان العراق و PYD في كوردستان سوريا. وهي جميعها أجنحة عسكرية وسياسية ومدنية تنشط في الدول المذكورة، وتدين بفكر زعيمها عبدالله أوجلان، وقد شكّلت أدوات ضغط إقليمي ودولي على مدى عقود.
أولاً: تأسس حزب العمال الكوردستاني (Partiya Karkerên Kurdistan – PKK) في 1978 على يد مجموعة من الطلبة الكورد، انضم اليهم فيما بعد عدد من اليساريين الترك.
تبنى الحزب الأيديولوجيا الماركسية اللينينية، ورفع شعار “تحرير وتوحيد كوردستان” عبر الكفاح المسلح. وفي (وثبة آب 1984)، أعلن الحزب بدء العمليات المسلحة ضد الدولة التركية، ما أدّى إلى اندلاع صراع دموي طويل استمر لعقود في كوردستان تركيا، وكانت حصيلته تدمير آلاف القرى الكوردية، ومقتل الآلاف من الطرفين.
في الحقيقة، لم يستهدف مقاتلو الحزب الدولة التركية وحدها، بل طالت العمليات أيضًا قادة الحركة الكوردستانية هناك، لمجرد اختلافهم مع توجهات الحزب آنذاك، نتيجة إيمانه الشديد بالعنف الثوري، واعتبار كل من يخالفه خائناً. وقد أدّى ذلك إلى مقتل عشرات الآلاف من الكورد أنفسهم، الذين انقسموا ما بين مؤيدي PKK (الآبوجيين)، وبين من عُرفوا بـ حماة القرى (القروجيين)، وهم من سلّحتهم الدولة التركية بحجة حماية أنفسهم من هجمات PKK .
شهد الحزب خلال مسيرته تحولات أيديولوجية وفكرية، خاصة بعد اعتقال زعيمه عبدالله أوجلان في 1999، حيث انتقل الحزب تدريجيًا من فكرة الانفصال الكامل إلى الدعوة لما سمي بمشروع “الأمة الديمقراطية” الذي يرى الكثير من المختصين بحداثة المصطلح في علم الاجتماع السياسي.
استطاع الحزب لأسباب عديدة من ضمنها الاستخدام المفرط للقوة والعنف، احتكار الساحة الأوروبية فيما يتعلق بالشأن الكوردستاني لعقود متتالية وهو (العنف) ما أدى الى تصنيفه ضمن قوائم الإرهاب الأوروبية والامريكية.
مع مرور الوقت، بدأ أوجلان يستفرد بالقرار داخل الحزب، لأسباب عدّة، منها ضعف المؤسسات الحزبية الداخلية، وغياب آليات ديمقراطية لاتخاذ القرار، إلى جانب تصفية القيادات المنافسة أو المعترضة. فقد شهدت مسيرة الحزب حوادث تصفية استهدفت شخصيات بارزة، وهو أمر لا ينكره الحزب، بل تفتخر به القاعدة الشعبية للحزب التي تعتبر المعترضين “خونة”.
وحرص PKK على بناء خطاب تعبوي يصوّر زعيمه باعتباره المفكر الأول، وصاحب الرؤية الثورية التي لا تخطئ. كما انه يُعامل ضمن الخطاب الحزبي، بوصفه رمزًا مقدّسًا، وتُعتمد خطاباته كوثائق إيديولوجية ثابتة.
وحتى بعد اعتقاله عام 1999، ظل الزعيم الأوحد للحزب، ولم تظهر أي شخصية بديلة أو منافسة، ولا تزال قيادات PKK الحالية تتعامل مع أفكاره كمرجعية وحيدة، وتتجنب انتقاده.
ثانياً: تشير الأنباء المؤكدة إلى أن PKK عقد مؤتمره 12 استجابةً لنداء زعيمه، في الفترة من 5 إلى 7 أيار 2025، واتُّخذت فيه قرارات تاريخية، وفقاً للبيان المقتضب الصادر عن الحزب، والذي وعد بالكشف عن التفاصيل لاحقًا في بيان رسمي.
ولا شك أن قرار حل الحزب وإلقاء السلاح قد تم اتخاذه خلال هذا المؤتمر، الذي شارك فيه عبدالله أوجلان نفسه اونلاين، باعتباره قرار الزعيم الذي لا يمكن لأحد الاعتراض عليه. كما أن المكالمة الهاتفية التي جرت أمس بين زعيم القوميين الأتراك دولت باخجلي وأحمد ترك، المقرب من أوجلان، وتبادل التهاني بينهما، تشير بوضوح إلى أن PKK قد اتخذ هذا القرار التاريخي.
ثالثاً: تداعيات قرار PKK
من المهم الإشارة إلى أن هذا القرار لم يكن ليتخذ لولا التحولات الجذرية والتغيرات العميقة والمتسارعة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط منذ 7 أكتوبر 2023 حتى الآن. بعبارة أخرى، جاء قرار الحل ضمن استراتيجية القوى الدولية والإقليمية الفاعلة التي تسعى إلى إنهاء المجموعات المسلحة العاملة خارج مساحة الدولة، بما فيها المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني، وذلك من أجل خفض التوتر ودفع عجلة الاستقرار الإقليمي.
ربما يعود الفضل في إنهاء هذه العملية — بطريقة مغايرة لما تم اتباعه مع حركات أخرى — إلى جهود البارزاني، إلى جانب بعض الدول الأوروبية والولايات المتحدة، الذين لعبوا دورًا فاعلًا في الوصول إلى هذه النتيجة.
أما فيما يتعلق بتداعيات القرار على القضية الكوردية بشكل مباشر — بعيدًا عن تفاصيل المشهد في الاقليم والساحة الأوروبية — فيُرجَّح أن يتم تبني استراتيجية البارزاني لإيجاد الحلول للقضية الكوردية عامةَ:
تتمثل رؤية البارزاني في (أن مرحلة الكفاح المسلح قد انتهت مع انتهاء حقبة إنكار الدول المعنية لوجود القضية الكوردية، واعترافها بالهوية القومية للكورد واستعدادها للجلوس إلى طاولة المفاوضات. وبما أننا اليوم في مرحلة تأمين وتثبيت الحقوق القومية، فإن تحقيق ذلك يتم عبر النضال السياسي للحركة الكوردستانية داخل حدود كل دولة، من خلال الانخراط في العملية السياسية إلى جانب القوى المؤمنة بالديمقراطية والتعددية.)
وفي هذا الإطار، تبرز حكمة البارزاني الشهيرة: «عشر سنوات من المفاوضات أفضل من ساعتين من الحرب»، في تعبير واضح عن قناعة راسخة بأولوية الحلول السلمية والسياسية على العنف والمواجهة.
أخيرًا، أصبح حزب العمال الكوردستاني جزءًا من التاريخ. ذلك الحزب المثير للجدل الذي احتكر ساحة كوردستان تركيا كليًا، والساحات الثلاث الأخرى جزئيًا لعقود، إلى جانب الساحة الأوروبية. الحزب الذي شطر الكورد إلى شطرين لا ثالث لهما: إما آبوجي، أو قروجي. الحزب الذي استطاع تحشيد الملايين، وتعبئتهم، والدفع بهم إلى حيث يشاء بسهولةٍ لافتة. سيحتاج مناصرو PKK وخصومه معًا إلى فترة استراحة، ثم إلى إعادة النظر في مسيرته المثيرة للجدل، وتقييم ما جرى.