عدنان بدرالدين
في العاشر من مارس 2025، تسللت أنباء عن اتفاق سياسي بين الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع وقائد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) مظلوم عبدي، حاملة معها عاصفة من التساؤلات والشكوك. بدا الاتفاق وكأنه محطة جديدة في مسار الأزمة السورية، لكنه في جوهره كان أكثر من ذلك: خطوة تعيد تشكيل مستقبل الكرد في سوريا، لا عبر الاعتراف بحقوقهم، بل عبر إعادة صياغة وجودهم ذاته. لم يكن الاتفاق مجرد وثيقة بين طرفين، بل كان إعلانًا مبطّنًا بأن الحلم الكردي يواجه خطر التلاشي تحت يافطة “الوحدة الوطنية”.
مصادرة التطلعات الكردية تحت قناع المواطنة
بمراوغة لغوية لا تتسم بالذكاء، أعاد الاتفاق تعريف الكرد داخل سوريا، ليس كشعب له حقوق تاريخية، بل كـ”مجتمع” يعيش ضمن كيان أوسع، لا يملك إلا الانصهار فيه. لم يتحدث الاتفاق عن الحقوق القومية، بل عن المواطنة، وكأن المشكلة ليست في تاريخ طويل من الإقصاء، بل في وثيقة هوية. الوعد الوحيد الذي قُدم كان إدراج حقوق الكرد كمواطنين، تمامًا كما كان يزعم نظام البعث المقبور، في دستور لم يولد بعد، ستشرف على صياغته لجنة تُختار بإرادة الشرع. ولكن أي ضمان يمكن أن يُبنى على وعود غير مكتوبة؟ وأي حقوق تُمنح دون وجود آلية واضحة لحمايتها؟
اتفاق بلا شرعية وأطراف بلا تفويض
لا يستند الاتفاق إلى أي شرعية قانونية أو سياسية حقيقية. فأحمد الشرع، الذي اعتلى السلطة عبر تحالف من الفصائل، لا يتمتع بأي اعتراف دولي، وهو مدرج على قوائم الإرهاب الدولية، مثل العديد من ذات الفصائل التي “انتخبته”. في المقابل، فإن مظلوم عبدي، كقائد لقسد، معين من الولايات المتحدة الأمريكية، لا يمثل الحركة القومية الكردية، ولا يمكنه الادعاء بالتحدث باسم الشعب الكردي، خاصة أن قسد لم تكن يومًا حركة كردية خالصة كما يتم الترويج لها، بل تحالفًا عسكريًا متعدد المكونات تحت رعاية دولية لمواجهة داعش.
مفاوضات في الظل
لم يكن للكرد أي صوت في هذا الاتفاق. جرت المفاوضات في الظلام، دون استشارة القوى السياسية الكردية، ودون إشراك منظمات حقوق الإنسان أو المؤسسات الثقافية الكردية. جاء القرار من الأعلى ليحسم مصير أكثر من ثلاثة ملايين كردي في سوريا، وكأن هؤلاء مجرد أرقام، لا شعب له إرادة ورؤية لمستقبله. حتى الأطراف الكردية الكبرى، مثل الزعيم مسعود بارزاني، لم يُؤخذ رأيها بعين الاعتبار، ما عزز الشعور بأن الاتفاق ليس إلا محاولة لإقصاء التمثيل الكردي الحقيقي.
الاتفاق كتجسيد لرؤية أوجلان؟
في خلفية هذا الاتفاق، يلوح شبح دعوة عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني، الذي دعا في فبراير 2025 إلى تخلي الكرد عن تطلعاتهم القومية واندماجهم في الدول التي قمعتهم لعقود. قدم أوجلان هذا الطرح باعتباره خطوة نحو “مجتمع ديمقراطي”، ولكن هل يمكن بناء ديمقراطية على حساب الهوية؟ هل يمكن تحويل شعب بأكمله إلى مجرد مواطنين في نظام لا يعترف بوجود قضيتهم أصلًا؟ إن ما جاء في اتفاق الشرع – عبدي يعكس بشكل أو بآخر تلك الرؤية، حيث يُطلب من الكرد أن يتنازلوا عن حلمهم القومي لصالح اندماج يقوده نظام لا يعترف بحقوقهم.
اتفاق لإنقاذ إدارة مترنحة
إلى جانب تبعاته الكردية، يبدو الاتفاق محاولة لإنقاذ إدارة الشرع من مأزقها السياسي. فالشرع، الذي يواجه اتهامات بارتكاب فظائع جماعية وتطهير طائفي ممنهج، خصوصًا ضد العلويين، بحاجة إلى تعزيز شرعيته بأي وسيلة. وكان دمج قسد في مؤسسات الدولة، بما في ذلك السيطرة على المعابر الحدودية والمطارات وحقول النفط مقابل وعود مبهمة، طوق النجاة الذي انتظره. لكنه طوق نجاة لنظام مأزوم، وليس للشعب الكردي الذي يجد نفسه مرة أخرى ورقة في لعبة أكبر منه.
انهيار الوحدة الكردية وانتشاء الأعداء التقليديين
كان لهذا الاتفاق أثر مدمر على وحدة الصف الكردي. فبدلًا من أن يكون خطوة نحو الاعتراف بالحقوق الكردية، أصبح عاملًا جديدًا في تفتيت البيت الكردي، إذ استبعد الأحزاب الكردية الرئيسية وأقصى القوى السياسية الفاعلة، ما جعل الكرد أكثر انقسامًا وأقل قدرة على المطالبة بحقوقهم. وفيما كانت القوى الكردية تصارع تداعيات هذه الصفقة، احتفت بها العواصم والجهات المناهضة تقليديا للقضية الكردية. فمن أنقرة إلى الدوحة، ومن القوميين العرب إلى جماعة الإخوان المسلمين، كان هناك إجماع على الترحيب بهذه الخطوة، إذ رأوها وسيلة لإنهاء الطموح الكردي بالحرية تحت أي شكل كان.
تفكيك قسد: هل هو جزء من صفقة أمريكية – تركية؟
يبدو أن الاتفاق ليس مجرد وثيقة سورية داخلية، بل جزء من خطة أمريكية – تركية لتفكيك قسد، خاصة بعد أن أنجزت مهمتها في القضاء على داعش. وفقًا لبنود الاتفاق، سيتم تفكيك قسد خلال تسعة أشهر، مما يعني حكما نهاية الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، التي – بالمناسبة – لم تتمتع في أي وقت بدعم شعبي حقيقي، لا بين الكرد ، ولا بين مكونات المنطقة الأخرى من العرب والسريان وغيرهم، بل فرضت على الدوام حكمها بالقوة. لكن تفكيك قسد، مع ذلك، لن يكون مجرد خسارة عسكرية، بل سيترك المناطق الكردية مكشوفة بلا أي حماية، بعدما كانت عمليا تحظى بحماية دولية غير معلنة تشكل درعاً في وجه القوى الإقليمية المتربصة بها. كما أن الاتفاق أزال العائق أمام انسحاب القوات الأمريكية من سوريا، وهو احتمال بات اليوم أكثر ترجيحاً من أي وقت مضى، وبشكل لن يحرج إدارة ترامب إلتي بعثت مؤخرا بأكثر من إشارة إلى أن قرار سحب هذه القوات هو مسألة وقت فقط.
الموقف الأمريكي: هل هو تواطؤ أم خذلان معتاد؟
بعد يومين من الاتفاق بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والسلطة المؤقتة في سوريا، أصدرت واشنطن بيانًا رسميًا رحّبت فيه بالخطوة، معتبرة إياها تقدمًا نحو إستعادة الشمال الشرقي السوري. وأكد وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، دعم بلاده للمرحلة الانتقالية السياسية، مشددًا على أن تشكيل حكومة غير طائفية ذات مصداقية هو السبيل الأمثل لمنع تصاعد العنف والصراع، في إشارة واضحة إلى تأييد واشنطن لهذا الاتفاق ودورها في هندسته. هذه ليست المرة الأولى التي يتعرض فيها الشعب الكردي للخذلان من القوى الكبرى، ومن واشنطن تحديدًا، لكنها قد تكون واحدة من أكثر اللحظات إيلامًا، إذ تأتي في وقت كانت فيه الآمال معقودة على دعم دولي مستمر.
إن اتفاق الشرع – عبدي ليس مجرد وثيقة تُوقّع، بل هو منعطف قد يعيد تشكيل الوجود الكردي في سوريا. في الظاهر، هو اتفاق يُبشر بالاستقرار، لكنه في جوهره خطوة نحو طمس الهوية القومية الكردية. إنها لحظة يتردد فيها السؤال الذي يفرض وجوده بقوة: هل سيقبل الكرد بأن يتحولوا إلى مجتمع بلا هوية، أم أنهم سيجدون في هذا التحدي دافعًا جديدًا لمواصلة نضالهم؟ المستقبل القريب سيكشف ما إذا كان هذا الاتفاق سيمر كما خُطط له، أم أنه سيشعل شرارة مقاومة جديدة في وجه مشاريع الإقصاء والطمس.